في ذكرى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، ومع استمرار الجدل الفصيلي والسياسي بين الفصائل الوطنية في فلسطين حول قدسية منظمة التحرير الفلسطينية: يناقش هذا المقال الهدف والشعار والطريق والميثاق الذي انطلقت على أساسه منظمة التحرير الفلسطينية، ومن أجل قراءة مشهد اليوم بلغة الأمس.
يكاد البعض أن ينسى أن منظمة التحرير أسست عام 1964 أي قبل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، بهدف تحرير الأراضي الفلسطينية التي كانت قد احتلّت عام 48. اليوم لا أحد من قادة وساسة المنظمة يتحدث عن هدف تحرير تلك الأراضي التي صارت أدبيّاتهم تعرّفها على أنها أراض لدولة مجاورة أسمها 'إسرائيل'. بل إن بعض رجالات المنظمة صارت تعانق قادة وساسة تلك الدولة "المجاورة" عناق الأحباب والأصحاب. إذن غار ذلك الهدف في غياهب النسيان، وتبدلّت الجغرافية التي تحدده، وتغيّرت الوجوه والقلوب، وبردت الدماء التي تضخها، فأين البوصلة التي تحدد الاتجاه لتلك المنظمة في ظل بطلان الهدف الذي انطلقت على أساسه؟
ثم إنه رغم إنشاء تلك المنظــــمة، فقد تمكّــــن الاحتلال من احتلال مناطق الضفة الغربية وغزة نتيجة تقاعـــس الأنظمة المحيطة بفلسطين، تلك الأنظمة التي قادت جيوشها إلى هزائم لتسطّر في أذهان الشعوب صورة العـــدو الذي لا يقهر، من اجل محو ذاكرة الأمة الجهادية. فهل استطاعت المنظمة أن تدافع في حينها عمّا كان قد تبقى من فلسطين ولا أقول أن ترجع ما كان قد احتل منها؟
ورويدا رويدا تقزمّت مطالب المنظمة، وتحوّلت إلى استرجاع ما احتل عام 67، ونسيت الناس ذلك الهدف، وصارت الـ67 هي الرقم الصعب، وغابت الـ48 من الذاكرة، وصارت اعتداءات اليهود على أهل عكا مشكلة 'إسرائيلية' داخلية لا يجرؤ أي من ساسة وقادة المنظمة على الحديث حولها. وصار تعريف فلسطين على أنها جغرافيا خطها الحد الذي تجاوزه الاحتلال بعد إنشاء المنظمة!
وبعيدا عن المتابعة السياسة للمنظمة، انخرط المناضلون في صفوفها لحمل السلاح ضد الاحتلال، تحت شعار: 'الأرض للسواعد الثورية التي تحررها'، واحتشد الثوّار خلف شعار التحرير. وحملوا السلاح وقاتلوا، واستشهد منهم من أخلص النية، ورحل رجال عن هذه الدنيا، وصاروا جزءا من التاريخ، ولم يعودوا اليوم محل مكاشفة سياسية. ولكن المنظمة اليوم ترعى مشروع السلطة الفلسطينية التي تعتبر اقتناء سلاح المقاومة جريمة، التزاما بالبند الأول من خارطة الطريق الأمريكية.
ثم إن السلطة التي أوجدتها المنظمة صارت تمارس سياسة كسر العظام للسواعد الثورية، بعدما بدّلت الشعار إلى 'الأرض للسواعد الأمنية التي تقمع أحرارها'. ولأجل ذلك، كانت حملة 'التنظيف' الكبيرة لأجهزة السلطة من كل ساعد بقيت فيه رائحة الثورة، وجرت عملية 'التطهير' تلك تحت عين وبصر الجنرال الأمريكي الذي يرعاها، وأحيلت تلك البقايا الثورية إلى التقاعد ليخلو الميدان تماما للسواعد الأمنية، مما أفضى عن انقلاب كبير على الشعار، وأدى إلى سابقة تاريخية: تحولت فيها حركة ثورية تحررية إلى جهاز أمني ينسّق مع محتله. فكيف يمكن أن يلتقي شعار السواعد الثورية مع شعار السواعد الأمنية تحت مظلة منظمة أو جبهة؟
وقبل نهاية الثمانينات، أعلن رئيس المنظمة الراحل عن تعليق الميثاق الذي تقوم عليه المنظمة عندما صرح بالفرنسية عام 1987 أن الميثاق أصبح (كادوك) أي لاغيا. ومن ثم تقنّن ذلك الإلغاء مع انبثاق السلطة التي أفرزتها اتفاقية أوسلو، التي وقعتها المنظمة مناقضة للميثاق الذي قامت عليه.
وانخرطت المنظمة مباشرة في وحْل التفاوض مع المحتل، وحصل ذلك تدريجيا لتخفيف ردة الفعل من الثوار الذين لم يكونوا يعرفون مع المحتل إلا لغة واحدة وهي لغة السلاح، وكان لا بد من ترويضهم وتعليمهم اللغة الجديدة: لغة الانبطاح. وهذا ما تطلب ما يقرب من العقدين من الزمان، مع أن الدعوة لعدم 'إسقاط الغصن الأخضر من يد المنظمة' منذ السبعينات لم تكن لتعني إلا شيئا واحدا وهو التفاوض. إذن، هل كان الكفاح المسلح الذي خاضته المنظمة طريقا للتفاوض أم للتحرير؟ وبغض النظر عن جواب هذا السؤال: فإن الواقع المشاهد اليوم أن طريق المنظمة هو التفاوض دون السلاح.
إذن تخلّى القائمون على المنظمة عن الهدف المعلن، وعن الشعار المرفوع، وعن الميثاق المعهود، وتخلّوا مع ذلك عن الطريق الذي حددته المنظمة وهو الكفاح المسلّح: فماذا بقي من المنظمة بعد بطلان الهدف، وتهاوي الشعار وبطلان الميثاق واستبدال الطريق، غير هيكل هزيل يحاول البعض بث الروح فيه من جديد لتمرير المشروع الأمريكي القاضي بإنشاء دويلة هزيلة تحت الإنعاش كجيوب وكنتونات تتخللها امتدادات الاحتلال فيها، وتحرثها دوريات الاحتلال كلّما شاءت.
في ظل هذا التبديل والتغيير (الظاهري)، علت أصوات تطالب بإعادة هيكلة المنظمة أو إعادة بنائها، والحقيقة أن إعادة الهيكلة تعني بلغة الإدارة والتخطيط إعادة صياغة الرؤية والرسالة والأهداف والبرامج وإعادة توزيع المناصب والمواقع والأدوار. إذا كان كل شيء قد تبدّل (على افتراض أن الواقع الجديد لم يكن جزءا من البرنامج الأساس)، فماذا الذي تبقى من تلك المنظمة، وخصوصا بعدما رحلت عنها حتى رجالاتها؟
ربما كان من المناسب، إذا تقررت إعادة الهيكلية أن تعاد التسمية أيضا، لأن لكل شيء نصيب من اسمه، وحيث أن الدور الأساس (أو الوحيد) الذي باتت تمارسه المنظمة هو التفاوض، إذن من الجدير أن تسمى منظمة التفاوض (negotiation) الفلسطينية (PNO) بدل (PLO). وتزداد صلاحية هذه التسمية الجديدة لدى ملاحظة أن مخارج حروف الاختصارين متشابهة، خصوصا في حالة حصول زكام في الأنوف، فلا تميّز رائحة الخبيث من الطيب.
إذن فوجود منظمة التحرير باطل من حيث الاسم والرسم، من حيث الهدف والشعار والميثاق والطريق، وأي حديث عن إعادة هيكلية المنظمة هو تحضير لبرنامج التمثيل لأجل التفاوض، لأن المقاوم لا يحتاج لإذن أحد، ولا أن يكون ممثلا لأحد، فساحة الصراع مفتوحة لا تتطلب تفويضا من أحد. أما التمثيل فهو حاجة المفاوض الذي سيوقع بالنيابة عمّن يفوّضه.
إن الحديث عن مرجعية جديدة للقضية الفلسطينية فيه مدخل للعودة للمربع الأول تحت اسم جديد وشعار جديد وبلباس جديد، وتلك العودة إن كانت حريصة على فكرة التمثيل فهي بالحتمية السياسية ستكون طريقا جديدا للتفاوض، والتفاوض مربوط بالتنازلات (المؤلمة وغير المؤلمة). وهنا تبرز خطورة استكمال الرسم القديم باسم جديد.
لا شك أن المرجعية الأصيلة (ولا أقول البديلة) للقضية الفلسطينية هي الأمة الإسلامية، وأرض فلسطين لم تكن قبل سايكس بيكو تعرف شعبا اسمه شعب فلسطين، بل كانت تعرف أمة اسمها الأمة الإسلامية.
لا أحد يملك حق التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين، ولا عن حرمان اللاجئين من عودتهم إلى بيوتهم وأملاكهم. أعجب ممن يقيم في بيته الوافر الظلال في إحدى مدن الضفة الغربية ثم يتصدّر التوقيع على وثيقة تسقط حق اللاجئين المشتتين في أطراف الأرض، في منطق غريب يقوم على التضحية بالغير لأجل الذات، مع أن التضحية النبيلة دائما تكون بالنفس فداء للغير. إن حق العودة الشرعي، يعني عودة الأرض للناس قبل عودة الناس للأرض، وإن مجرّد عودة الناس تحت الاحتلال، هي تكريس للاحتلال وليست تحقيقا للحقوق.
خلاصة القول أن الذي يتكتّل ويتأطّر لأجل المقاومة والكفاح المسلّح لا يحتاج إلى تمثيل من جهة، فالتمثيل لا يحتاجه إلا المفاوض: إذن لماذا إذن هذا الجدل السياسي؟ اللهم إلا إن كان الأمر تحضيرا لما بعده من تمثيل في طريق تفاوض جديد!
د. ماهر الجعبري
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين