الاستغوال أبشع مراحل الامبريالية (11)

بقلم: عدنان الصباح

يصف الكاتب الصحفي الانجليزي ريتشار داودن وهو احد الخبراء بالشأن الإفريقي أحوال القارة قائلا " إنها نسيج متشابك يختلط فيه التاريخ مع الأساطير ،ويمتزج فيه التنافس مع التحالف، والطموح مع الاحتجاج، وفي هذا الإطار يلعب كل طرف دوراً متميزاً على مسرح القارة السمراء: يستوي في ذلك مديرو البنوك في كينيا، وبارونات البترول في نيجيريا، وقضاة المحاكم في الكونغو، ورعاة الماشية في جنوب السودان ناهيك بعمال وخبراء المناجم في زمبابوي القادمين من الصين " فلماذا وما هي الأسباب التي جعلت القارة السوداء بكل هذا التخلف والفوضى.
بعد انتهاء الحرب الباردة في نهايات القرن الماضي ساد إحساس لدى العديدين ان حالة السلم القادمة ستسهل على العالم الشروع في التطوير والتنمية واستتباب السلم والأمن الدوليين سيوفران للشعوب الفقيرة فرصة الانخراط في مسيرة الحضارة الإنسانية وقدمت الامبريالية الأمريكية وحلفائها شعاراتها عن العولمة على أنها سفينة النجاة للإنسانية بكاملها وان عالم القطب الواحد سيجلب الرفاهية للبشرية وفي حقيقة الأمر فقد ظهر جليا أن الأمر خلاف ذلك في إفريقيا منذ العقد الأخير في القرن العشرين وطوال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين, ويبدو ان اللعبة بعد ذلك انتقلت إلى منطقة الشرق الأوسط التي تملك من الثروات ما تجعلها مصدرا للجشع الامبريالي المتنامي.
في إفريقيا تحديدا وهي القارة الأغنى بمختلف الثروات الطبيعية سادت في العقدين الأخيرين أسوا أنواع الصراعات والحروب وأنواع التمرد والانقلابات وما يرافق ذلك من ماسي وفساد وخراب يطال المتقاتلين والمدنيين على حد سواء من شرقي القارة ( الصومال ) إلى غربيها ( الكونغو ) وخلال العقدين الأخيرين 1990 – 2010 شهدت إفريقيا أكثر من 200 نزاع مسلح بكل ما فيها من ماسي يصعب حصرها لشدة بشاعتها فما هي الأسباب والعوامل التي جعلت من إفريقيا مرتعا خصبا لكل هذه الحروب والصراعات الدموية والتي ان فهمناها قد نستطيع فهم الحالة الدائرة في الشرق الأوسط بعد العام 2010م
عديدة هي الأسباب التي يمكن رصدها لتحليل الحالة الخاصة بإفريقيا ومنها:
1- حجم الثروات الطبيعية الهائلة والقدرة على الوصول إليها بأرخص الأثمان وتنوعها من النفط والذهب والماس والكولتان والأخشاب والمواد الغذائية الأولية إلى تجارة البشر بهم وعليهم وهو ما فتح شهية الدول الامبريالية وشركاتها متعددة الجنسيات والمصالح وصاحبة القرار والحكم الفعلي في الدول الامبريالية الغربية وحلفائها من الدول الصناعية الأخرى وعلى رأس الجميع تقف الدولة الامبريالية الأولى الولايات المتحدة الأمريكية.
2- حالة التخلف التي تسهل تأجيج النعرات الاثنية هناك وتأكيد التباينات والاختلافات القبلية وهو ما يعني إثارة حالة عنصرية متخلفة وموغلة في التطرف وهذا يعني إلغاء أية إمكانية لقيام الدولة الوطنية الحديثة وغياب مفهوم المواطنة كأساس للدول العصرية الحديثة وتكريس الديكتاتورية وغلبة الأقوى وإخضاع الضعيف بكل السبل الممكنة.
3- المصلحة الامبريالية العليا بتوفير فرص متقاطعة بمثل هذه الأوضاع فهي إلى جانب تحقيق القدرة على نهب الثروات بابخس الأسعار تفتح الأبواب على مصراعيها لتجارتها الأخطر وهي تجارة الأسلحة والقديمة منها خاصة كأفضل فرصة للتخلص منها وبيعها بأفضل الأسعار أيضا في ظل تنامي الصراعات المسلحة بين سائر الأطراف.
4- حالة الاستعمار الطويلة والمتنوعة التي خضعت لها القارة السوداء بدءا من الاستعمار الاسباني والبرتغالي في القرنين السابع والثامن عشر إلى الاستعمار الانجليزي والفرنسي في القرن التاسع عشر وصولا إلى الاستعمار الامبريالي الجديد في القرن العشرين مما أدى إلى استغلال موارد القارة السوداء أبشع استغلال وصل إلى حد نضوب بعضها هناك فيما أبقت القوى الاستعمارية مواطني إفريقيا بعيدين عن التعليم والثقافة والتطور ومواكبة العصر مما جعل قدرتهم على إدارة البلاد ومواردها أمرا في غاية الصعوبة وبقيت خيرات البلاد ومقاليدها بيد المستعمرين وورثت الامبريالية الجديدة كل ما وفرته لها هناك موجات المستعمرين المتلاحقة.
5- دخول قوى جديدة طامعة في خيرات أوروبا من الثروات الطبيعية كالمعادن والأراضي الزراعية ومن اخطر هذه الجهات كانت إسرائيل وامتداداتها الدولية المتمثلة بأخطرها وهي المنظمة اليهودية الايباك والتي تدير أخطر التكتلات الاقتصادية في العالم وهذا ساعد على تأجيج الصراعات والنزاعات هناك خصوصا وان إسرائيل مثلت النموذج الأسهل لدى القوى المتحاربة بتبديلها السلاح كما أن وجود قوى مثل الصين لها مصالح اقتصادية كبيرة هناك ساعد في زيادة حدة الصراع بين سائر أطراف الصراعات هناك على اختلاف أهدافها وخلفياتها إلا أن ما يوحد كل الأطراف المتصارعة هناك أنها بشكل مباشر أو غير مباشر فهي تقدم خدمات مجانية لقوى الاستعمار والرأسمال.
6- الدور الخطير الذي تلعبه العوامل الطبيعية هناك كالفيضانات والأعاصير المترافقة مع الجفاف والتصحر وهي آفات قاتلة خصوصا مع ضعف حاد في البنى التحتية القادرة على مواجهتها والحد من تأثيرها.
وبسبب من الأهمية العالية لإفريقيا من وجهة نظر المصالح الأمريكية فقد انشأ الجيش الأمريكي قوة خاصة بإفريقيا باسم " أفريكوم " وفي حديث لصحيفة "وول ستريت جرنال"، قال الجنرال "شارلز واد"، قائد القوات العسكرية الأمريكية في أوروبا: " تقع على عاتق قواتنا المسلٌحة في إفريقيا، مهمٌة أساسية، تتلخٌص في ضمان السٌيطرة الكاملة على المناطق النفطية في نيجيريا وما حولها، لأن 25% من حجم الواردات الأمريكية للنفط ستأتي من هناك في المستقبل القريب" وهذا يوضح جيدا مصلحة أمريكا في عسكرة وجودها هناك تنفيذا لمخططاتها وفي هذا السياق فقد تدخلت أمريكا عسكريا في ليبيريا في آب 2003 وقامت بعزل شارلز تايلور حليفها السابق وفرضت بالقوة وقف الحرب الأهلية بين المتخاصمين والتي كان قد مر على اندلاعها 15 عام وقامت ببناء مطار عسكري وقاعدة بحرية عسكرية ومحطة تجسس لوكالة المخابرات الأمريكية لتغطية القارة الإفريقية بكاملها وفي سياق دورها الاقتصادي هناك فقد قامت القوات الأمريكية بحماية اكبر مزرعة للمطاط في العالم والتي تقع بالقرب من مطار العاصمة " منروفيا " وجعلت من مطار العاصمة الدولي أهم قاعدة تزويد بالأسلحة لحركات التمرد اليمينية مثل يونيتا الانغولية والمتمردين الطوارق, وفي العام 2003 نفسه فرضت الولايات المتحدة على عدة دول توقيع اتفاقيات معها تتيح لها استخدام مطارات هذه الدول لأغراضها العسكرية وقد وقعت على هذه الاتفاقيات كل من الكاميرون والجابون وغينيا الاستوائية كما أنها ركزت في تحركاتها العسكرية بهدف إخماد النزاعات المسلحة في المناطق التي تنشط بها شركات النفط الأمريكية العملاقة وقد أعلن الجنرال الأمريكي " جيمس جونز " عن نية وزارة الدفاع الأمريكية إقامة مراكز للتدخل السريع في إفريقيا ويذكر أن هذا الجنرال أدار فيما بعد العلاقة الأمنية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل وفي نفس العام قام الرئيس الأمريكي بوش الابن بزيارة بعض الدول الإفريقية وقد أعلن بوضوح عن الاهتمام الأمريكي العالي بمراكز التوتر في ليبيريا والسودان وساحل العاج ومناطق البحيرات الكبرى وكان واضحا من تصريحاته سعي الولايات المتحدة للسيطرة المباشرة على مصادر الطاقة خصوصا في مناطق الخليج العربي وبحر قزوين وإفريقيا عبر تامين وجود قواعد عسكرية حامية لهذه المصلحة الأمريكية العليا بهدف ضرب أي محاولة لمنافسة او تعطيل المصالح الاقتصادية الأمريكية هناك بأي شكل من الأشكال وهي في سبيل ذلك لم تألو جهدا في ترتيب وجودها عبر أنظمة حكم مستبدة تابعة لها وحيث عجزت عن السيطرة على الحكومات الرسمية خلقت هناك قوى من المتمردين التابعين لها بهدف زعزعة استقرار تلك البلاد وصولا لإجبارها على الرضوخ لأهدافها وقد كانت السودان النموذج الأبرز لذلك.
هنريتا فور مديرة منظمة التعاون الدولي الأمريكية " يو أس أيد " قالت في معرض تفسيرها لدور منظمتها في إفريقيا "عرفت إفريقيا في ظرف 25 سنة، 21 نزاعا مسلحا، بمعدل 7 سنوات لكل منها، ويجب انتظار 17 سنة لتعود نسبة النمو لما كانت عليه قبل هذه النزاعات، ودور أفريكوم هو الوقاية من النزاعات، وتقديم المعونة للسكان، ومساعدة الحكومات والمواطنين زمن الكوارث الطبيعية، بالتعاون مع شركائنا في القطاع الخاص، والمساعدة على تجاوز الصعوبات الاقتصادية والنزاعات العرقية والمرض والجريمة، وهي آفات خطرها يعادل خطر الحروب والنزاعات…". وهنا يجب الملاحظة هذا الخلط الواضح بين دور منظمتها ودور افريكوم القوة العسكرية الأمريكية في إفريقيا فهي حين أرادت التحدث عن منظمتها تحدثت عن افريكوم مما يعني هذا الاستخدام الأبشع للمساعدات الإنسانية ل " يو أس أيد " فقط بهدف تلميع صورة أمريكا والتغطية على جرائمها العسكرية هناك وهو ما تفعله في عديد من دول العالم في بما فيها الشرق الأوسط فنحن أمام برنامج عسكري يستخدم المعونات والشعارات الإنسانية النبيلة لتحقيق غاياته لا أكثر ولا أقل.


بقلم
عدنان الصباح