يا صديقي

بقلم: أسامه الفرا

ساقني غموض عنوان الكتاب إلى دائرة التخمين، وما زاد الأمور تعقيداً أنني كنت أجهل بوصلة الاهتمام الأدبي للصديق سعيد أبو غزة، حيث عرفته من خلال عمله المرتبط بالمشاريع وما تفرضه من مفردات تتعلق بالجهة المانحة والتمويل والموازنة والتنفيذ والاشراف، لم يسبق لي أن استمعت إليه وهو يشكل الكلمات في قالب أدبي، لم أجد في دعوته لحضور حفل توقيع كتابه "يا صديقي .. رسائل بلا طوابع" ما ينبيء عن المحتوى الأدبي للكتاب، وإن ذهب بي العنوان إلى مساحة الشعر أكثر منه إلى الرواية أو القصة القصيرة، لكن ما أن قلبت صفحات الكتاب حتى وجدت نفسي امام نمط جديد من الكتابة، نمط يحاكي متطلبات العصر المبنية على لغة السرعة، كأن الوقت لم يعد يسعفنا للهرولة خلف أحداث الرواية التي تأخذنا بتشعباتها إلى دهاليز متشابكة، كما الواقع بتفاصيله المؤلمة حين افقدنا حاسة تزوق الموسيقى، ولم نعد نجد في الشعر سوى ما ننكيء به جراحنا.

كتاب "يا صديقي" أشبه ما يكون بمطعم للوجبات السريعة، بإستطاعة القاريء أن ينتقي واحدة منها ويمضي بها سريعاً، ولا ضير أن يتذوق مفرداتها وهو يجادل سائق سيارة الأجرة عن سبب اختلاف التعرفة بين رحلة الذهاب والإياب بين محطتين، أو يخطف واحدة منها ويلوكها بين أسنانه وهو يتلظى غيظاً في الصحراء القاحلة الفاصلة بين ما يقال وما يراه، وله إن شاء أن يختصر شيئاً من كلمات الرسالة القصيرة كي يسهل هضمها ولا يدخله في التلبك المعوي الذي استفحل فينا بفعل المناكفة، وله أيضاً أن يبدل بعض كلماتها كي تتلائم مع لونه المفضل سيما وأن اللون الواحد بات يستحوذ على جل إهتمامنا، وله أن ينسخ واحدة منها ويعيد لصقها على صدر صفحته التي هي عالمه الذي يتمناه لا ذلك الذي يحياه، وإن سمح له الوقت يمكن أن يدخل مع صديق غير صديق الكاتب في جدل حول اصل الحكاية ليصلا سوياً بعد طول عناء إلى نقطة البداية.

لعل الجميل في رسائل الكاتب أنه عنونها لصديقه إلا أنه حرص على أن يبقيها بلا طوابع، لعله أراد أن يترك مهمة إختيار الصديق للكلمات ذاتها، للحكاية التي اختصرتها الحروف، للألم تارة وللفرح تارة أخرى في تحديد وجهتها، أو لعله أراد لبعضها أن تحدث حراكاً بين القاريء وصديقه الساكن فيه، ولعل غياب الطوابع عن الرسائل فيه ما يكفي لاجهاض التهمة في المساحة الضيقة والمقيدة لحرية الرأي، أراد أن يضع بين يدي صديقه كلماته كي تكون مرآة يرى فيها مايحاول ألا يراه.

تقنية الاتصالات بقدر ما تستحضر لنا المعلومة بسرعة ويسر بقدر ما فرضت علينا مفردات السرعة، لم نعد نحتمل السباحة في بحر الكلمات التي تأخذنا بين مدها وجزرها، ولم نعد نطيق إنتظار الخطيب وهو يردد على مسامعنا ذات الجملة مراراً، باتت التغريدة تجذبنا أكثر من سواها، وتحولت الفيسبوكيات إلى عالم نعيش في رحابه، وإن مللنا من كلماتها القليلة رحنا نبحث عن الصورة، فهي الأقدر على أن تأخذنا بعيداً عن تداخل المعاني، لعل الكاتب في رسائله إلى صديقه مجهول الهوية أراد أن يختصر المسافة كما يفعل اليوم محترفو الخطابة في إعتمادهم على رسائل وإن كانت محددة العنوان، الرسائل القصيرة تقتحم خلوتنا دون تحضير ودون إفاضة، كأنها تريد أن تذكرنا بعالم نعيش فيه لم يعد للإسترسال فيه قيمة، إعتدنا أن نتعامل مع الرسائل القصيرة عبر الهاتف النقال وتغريدة على صفحات التواصل الاجتماعي، ويبدو أن قوة مفاعيلها سيدفعها لفرض ذاتها على حاضرنا الأدبي، فالحياة بوتيرتها المتسارعة تتناغم مع الرسالة القصيرة أكثر مما تفعله مع أنماط أدبية أخرى، ولعل الصديق سعيد أبو غزة أراد بكتابه "يا صديقي" أن يغازل هذه الفكرة.

بقلم/ د. أسامه الفرا