قبل ما يقارب نصف قرن، في 7/6/1967 ، سقطت القدس، ومن ثم أريحا، مسقط رأسي، في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، كما سقط قبلها بعدها بيوم واحد رام الله وجنين، وقلقيلية، وقطاع غزة. بدت مطامع المشروع الاستعماري التوسعي آنذاك أكثر شراهة للهيمنة على ما تبقى من أرض فلسطين، مدعومة بتفوق عسكري وسياسي زودته به عواصم الدول الأجنبية من أجل تدمير الكيان الثقافي والمادي للسكان الفلسطينيين الأصليين باعتباره أحد دعائم قيام إسرائيل. ورسخت هذه الركائز وممارسات التطهير العرقي بسن مزيد من القوانين العنصرية لتهجير ما بقي من أبناء شعبنا في القدس ومحيطها وباقي أرض فلسطين المحتلة.
كان لرفض الهزيمة في ذاك الوقت أثره البالغ في نفوسنا، رافقه في المقابل سعياً لا محدود لتغيير الواقع الذي أدى إليها. فعلى الرغم من أن إسرائيل حافظت على الوضع الراهن وابتكرت كل الوسائل غير الشرعية لطرد شعبنا والغاء وجوده عبر قرن من الزمن، إلا أن محاولاتها في تكريس الهزيمة ومحو هويتنا وهيمنتها على أرضنا وحقوقنا ومواردنا باءت بالفشل، إذ لم ينفك أبناء شعبنا في الوطن ومخيمات اللجوء والمنافي عن مواجهة الاحتلال ومشاريعه التصفوية بكل الطرق الممكنة، والدفاع عن حقهم في الوجود وتقرير المصير والعودة، والذي عبّرت عنه القيادة الفلسطينية بقرارات واستراتيجيات ساندت هذا النضال، وتلاءمت مع كل مرحلة من مراحل كفاحه المشروع ضد الاحتلال.
وفي المقابل، أثبتت إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، خلال السنوات أنها ليست ناضجة لصنع سلام حقيقي يفضي إلى مصالحة تاريخية، بحيث ضربت عرض الحائط التزام الجانب الفلسطيني بتحقيق السلام، كما وأفشلت عن سبق إصرار كل الجهود والمبادرات العربية والدولية لإحياء العملية السياسية والوصول إلى سلام عادل، كان أخرها المبادرة الفرنسية.
ففي العشرين سنة الأخيرة، نزع المجتمع الاسرائيلي نحو تطرف وكراهية وتحريض ضد أبناء شعبنا بشكل غير مسبوق، يوجهه ويغذيه في ذلك تحالف المستوى الرسمي السياسي والديني والعسكري، بتواطؤ مكشوف من المنظومة القضائية وتورط أذرعها في دعم نظام التمييز العنصري ضد شعبنا، والتغطية على جرائم الاحتلال وطمس الحقائق، كما أثبتته منظمة "بيتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الانسان في تقريرها الأخير في أيار 2016.
خلال هذين العقدين، تحكم المستوطنون بشكل رئيسي في برنامج وطبيعة حكوماتهم، فيما أصبحوا أكثر عدداً وثقة بمشروعهم الاحتلالي. وقد كرسوا لغة التطرف والاقصاء، حتى أضحى خطابهم جزءاً من ثقافة عامة تغلغت في الأوساط الإسرائيلية، شعاره العريض التمسك بالاحتلال ورفض إقامة الدولة الفلسطينية، وهذا ما عبّر عنه العديد من أبناء المؤسسة الرسمية، من أمثال نفتالي بينيت الذي أعلن مطلع العام الحالي أن العام الدراسي القادم 2017 سيكون عام "وحدة القدس"، وتسيبي حطبولي التي تود الاحتفال العام القادم "بوحدة البلاد، وحقيقة عدم وجود احتلال"، ووزيرة "عدل الاحتلال" ايليت شاكيد التي أكدت "أنه لن تقوم دولة فلسطينية ولن يتم إخلا تجمعات سكنية (مستوطنات) ما دامت وزيرة في هذه الحكومة"، إلى رأس الهرم السياسي الذي أعلن أيضاً تمسكه باحتلال هضبة الجولان السورية. وفيما غدت فرص السلام معدومة، اتخذ نتنياهو مجموعة أخرى من الاجراءات لاستكمال قراراته وتنفيذ مخططاته توّجها بإقصاء وزير حربه السابق موشي يعلون واستبداله بالحزب والرجل الأكثر تطرفاً "أفيغدور ليبرمان" في تحالف معلن لتعزيز الاستيطان الاستعماري ونهب الأرض والمقدرات، وتعزيز الاحتلال على حساب فرص السلام.
هذا في الوقت الذي كانت منظمة التحرير قد كرست جهودها السياسية من أجل تثبيت حل سياسي شامل ودائم للقضية الفلسطينية قائم على رؤية حل الدولتين، وقامت بجميع واجباتها السياسية ونفذت التزاماتها كافة، وقدمت الفرصة تلو الأخرى لإنقاذ السلام، إلاّ أنها جوبهت بالرفض والامعان الاسرائيلي في تدمير حل الدولتين عبر تسريع وتيرة الإستيطان ومجموعة أخرى من الانتهاكات الأحادية الممنهجة في الضفة الغربية ومدينة القدس على وجه الخصوص، وفشلت على الدوام في تحمل المسؤوليات كشريك للسلام. فقامت منظمة التحرير بوقف عملية المفاوضات في نيسان العام الماضي 2014، وأعلنت موقفاً واضحاً لا عودة عنه من العودة الى طاولة المفاوضات، مفاده استئناف المفاوضات مقابل تنفيذ الالتزامات المستحقة على إسرائيل والاتفاقيات المبرمة وفق مرجعيات السلام، بسقف زمني محدد، ووقف نشاطاتها الاستيطانية بشكل كامل، والإفراج عن الأسرى وفي مقدمتهم الدفعة الرابعة لما قبل أوسلو، وقبول مبدأ الدولتين على حدود 1967، ووجود إطار دولي للإشراف على العملية التفاوضية ونتائجها، ولم تكن هذه الأسس شروطاً فلسطينية كما تدّعي دولة الاحتلال في دعايتها وخطابها الاعلامي والسياسي وإنما التزامات ترتبت عليها نتيجة الاتفاقات الموقعة التي لم تلتزم بها.
واتخذنا بالتزامن مع ذلك سلسلة من الخطوات القانونية والسياسية من أجل تغيير قواعد اللعبة السياسية على أساس إعادة الإعتبار إلى سيادة القانون والشرعية الدولية، وتثبيت مواقفنا السياسية جميعها على هذا الأساس، وحمل القضية الفلسطينية إلى مسار التعددية الدولية وإخراجها من الإطار الثنائي والاحتكار السياسي الذي استحوذ عليها لعقود من الزمن. فحصلت فلسطين على عضوية الدولة المراقب للأمم المتحدة، من أجل حماية حقوق أبناء شعبنا وضمان محاسبة الاحتلال ومستوطنيه على خروقاتهم وجرائمهم المنظمة، وانضمت إلى الهيئات والمعاهدات الدولية وخاصة ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، وناضلت في المنابر الدولية، وحثت الدول على التدخل واتخاذ المبادرات السياسية لمنع الاستفراد الإسرائيلي والأمريكي بالحل السياسي. أما على الصعيد الداخلي، فقد عملت القيادة على دعم مقومات التمكين الذاتي، ورفضت الارتهان للشروط والاملاءات الإسرائيلة، واتخذت قراراً بالاجماع بتطبيق قرارات المجلس المركزي لعام 2015، وإيجاد الآليات لتحسين شروط صمودنا على الأرض، واستكمال بناء مؤسسات الدولة، ولا تزال ماضية بكل حزم نحو تحقيق المصالحة الوطنية وصولاً إلى إجراء الانتخابات وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير.
وبنفس التوجه الذي سارت عليه قبل عامين، دعمت القيادة الفلسطينية اليوم مضمون المبادرة الفرنسية التي تقوم مبادؤها الأساسية على حل القضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية، ورعاية دولية للعملية السياسية تفضي الى انهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي بسقف زمني محدد. وقمنا بإعلان موقفنا من المبادرة بشكل واضح بموافقة ودعم أشقائنا العرب الذين قالوا كلمتهم في جلسة اجتماع وزراء الخارجية العرب في 28 أيار 2016 في القاهرة، على أن تنطلق من قاعدة حل الدولتين، وتجسيد قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس المحتلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 التي اعترف بها العالم وبحدودها وجسّدها في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 19/67، وإيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين حسب القرار الأممي 194، وأن تكون المرجعية مبنية على أسس الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة والمبادرة العربية للسلام كما هي، والاتفاقات الموقعة.
إن العام الحالي يشكل فرصة جدية للمجتمع الدولي وعلى رأسه بريطانيا ودول أخرى من أجل تصحيح أخطائها في إلحاق الظلم التاريخي بشعبنا، وعجزها اللاحق عن محاسبة إسرائيل وجعلها تدفع ثمن احتلالها واستيطانها طيلة هذه العقود، فالمطلوب اليوم الدفع بهذه المبادرة قدماً على هذه الأسس قبل الدخول بعام الاستحقاق السياسي والأخلاقي عام 2017، الذي يؤرخ لنصف قرن على الاحتلال العسكري لفلسطين، وقرن على وعد بلفور المشؤوم وسبعين عاماً على قرار التقسيم. وعلى إسرائيل استخلاص النتائج من التاريخ الذي تفوّق فيه النضال الانساني العالمي ضد الاستعمار وإرادته بالتحرر على لغة العسكرة والقمع والظلم، وهي فرصة أيضاً لها ولشعبها عليها اغتنامها قبل فوات الأوان، والانخراط في هذه العملية السياسية التعددية، والانضمام إلى المنظومة الدولية الانسانية والديمقراطية بدلاً من التورط أكثر في مشروعها الاستعماري العنصري، والتطرف، والفاشية التي ستحمل بذور ذوبان هذا المشروع وعزله ليس دولياً فحسب بل داخلياً أيضاً طالما أنه لا يحمل مضامين العدالة والإنسانية والأخلاقية.
إن العام 2017 ينبغي أن يكون عام إنهاء الاحتلال وفقاً للقانون الدولي، والاحتفال بحرية فلسطين وتجسيد سيادتها واستقلالها على الأرض، بدلاً من الاحتفال الإسرائيلي والدولي بإطالة أمده وتثبيته على حساب حقوقنا. إنه عام استحقاق عالمي بامتياز وامتحان يضع الإرادة الدولية على المحك.
بقلم: د.صائب عريقات
أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية