يمر اليوم قرناً من الزمن على توقيع اتفاقية سايكس بيكو (عام 1916) والمتعلقة بتقسيم الشرق. تعد هذه الاتفاقية من أشهر الاتفاقيات التاريخية على الإطلاق، وقد جاءت تتويجاً للتفاهمات والاتفاقات السرية بين مراكز القوى العالمية في ذلك الوقت وهي بريطانيا وفرنسا بمباركة الإمبراطورية الروسية. قسمت الاتفاقية المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا واللتان اعتبرتا أنفسهما الوريثان الشرعيان والوحيدان لغنائم الشرق، وعينا أنفسهما أيضاً وكلاء حصريين لبسط مخالب سيطرتها على تلك الدول بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية التي كانت تدير المنطقة تحت نفوذها الواسع.
قُسم المشرق العربي حينها إلى دول وكيانات سياسية ومن هذه المناطق فلسطين ومصر والأردن وسوريا والعراق ولبنان والخليج العربي، بحيث تولت فرنسا مناطق سوريا ولبنان وأجزاء من العراق، في حيث أطبقت بريطانيا سيطرتها على الناحية الجنوبية من بلاد الشام وأجزاء من العراق وسوريا. وأن تكون فلسطين تحت سيطرة الإدارة الدولية بقيادة بريطانية (الانتداب البريطاني لفلسطين).
حافظ خلفاء سايكس بيكو- مع مرور السنوات - على انجازات التقسيم، واستمر اشعال الصراعات المختلفة. مع تردي الوضع العربي بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، نستطيع القول أن المنطقة بأجمعها دخلت في منعطف جديد لم تشهده من قبل. إن العرب أنفسهم انقسموا ما بين مؤيد ومعارض. حتى أن تموجات القوى والأنظمة اختلفت، فقد كانت الأنظمة أحادية القطبية وتمثلت في أمريكا، ولكن بعد غياب الاستقرار ووجود الرغبة في السيطرة اختلف الميزان الأحادي، لتظهر أنظمة متعددة القوى بعد إعادة أمجاد الدب الروسي، وكذلك ظهور القوى البريطانية والفرنسية في الصورة.
انطلاقاً من مبدأ حماية المصالح، ووضع البروتوكولات والتفاهمات اللازمة لهذه الحماية، لم تعد سايكس بيكو السابقة تلبي الاحتياج الاستعماري في المنطقة، الأمر الذي فرض ضرورة إجراء تحديث على الاتفاقية. وقد اعتمد المخططون للمشرق الجديد أن تلبي النكهة الجديدة للاتفاقية معيارين:
الأول: الإدارة العصرية للمنطقة بعد إخضاعها للسيطرة من جديد من خلال تفتيت الدول العربية على أسس طائفية ومذهبية وعرقيات قومية من أجل إنشاء دول يسهل اختراق أنظمتها.
الثاني: القبول بالوجود الصهيوني بين الدول العربية وزيادة رقعة علاقات التطبيع بينه وبين الدول الهشة المجاورة.
إن صورة خريطة التقسيم الجديدة قاتمة إلى حدا ما. من المتوقع أن يبدأ التقسيم بالتفتيت لبعض الدول كاليمن والعراق وسوريا وليبيا ولبنان - وهو ما قد بدأ بالفعل ونراه جلياً على أرض الواقع – إلى جانب تفتيت مثلث الرعب والثقل في المنطقة وهي السعودية وإيران وباكستان.
إن المطامع بالنفط، وهيمنة الوجود الإسرائيلي والقضاء على أي حلم بالوحدة العربية هي الهدف الاستراتيجي الأعلى في خطة تحديث خريطة سايكس بيكو وذلك تنفيذاً للمؤامرة الصليبية للإجهاز على أخر مظاهر الوحدة الاسلامية والتمهيد للإجماع العربي بالاعتراف بإسرائيل.
إن الحراك السياسي والاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط قائمين على إشعال الصراعات المتناحرة والتلاعب باقتصاديات بعض الدول ولاسيما منها الدول النفطية، حيث ستواجه هذه الدول عجزاً كبيراً في موازناتها خلال الفترة القادمة بسبب الانخفاض الحاد في سعر برميل النفط، الأمر الذي يسهل إضعاف هذه الدول وكسرها من أجل الظفر بانهيارها، وإقامة أخرى بديلة جديدة بنكهة جديدة.
ستحظى الدول غير النفطية ببدائل تفتيتيه أخرى تتركز في الدسائس الفكرية والطائفية الأشبه بحشرات الأرض التي تصيب ميتاً فتباشر به عملية التحليل. لقد غلبت الصراعات الطائفية بين سني وشيعي وعلوي، وهو ما خلق أقليات داخل الدولة الواحدة، وأنظمة متناحرة فيما بينها داخل النظام الأكبر وهو الدولة الواحدة، لتصبح الفدرالية الكبيرة عبارة عن فدراليات صغيرة متعددة. إن العراق وسوريا واليمن وليبيا خير أمثلة في هذا السياق.
اختلف المحللون حول ثورات الربيع العربي وأهدافها، هل هي ثورات ضد الأنظمة الاستبدادية رغبةً من الشعوب في التحرر من روابط العبودية الاقتصادية والسياسية لأنظمة أخرى؟ أم هي إشعال شرار الطائفية والاختلاف والانقسام لكل نظام على نفسه تنفيذاً لأجندات خارجية؟ رجح المحللون التفسير الثاني على الأول.
في ظل الاضطرابات الدائرة؛ يتنبأ المحللون بقرب إعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط بمناسبة مرور اليوبيل الماسي لتوقيع سايكس بيكو. يساعد في تنفيذ هذا المخطط، الأيدي العربية، حيث تستثمر بعض الأقليات الاضطرابات في المنطقة من أجل إيجاد مكان وحيز لها على خريطة الشرق الأوسط لم يكن موجوداً بالسابق، فعوامل اختلاف أو تعارض الثقافة السياسية أثبتت استحالة وفشل التعايش الإجباري بين الشعوب. منها اقليم كردستان العراق والذي يطمح بكل جهد غير مدخر إلى إقامة دولة كردستان، من خلال تأييدهم القوي لوجود سايكس بيكو جديدة تعيد تقسيم الحدود من جديد لإرضاء الجميع أو الأقليات المظلومة على أقل تقدير. في المقابل؛ تعارض تركيا – أحد المُثل الإسلامية الأفضل في العالم- وبشدة المحاولات الساعية إلى إضعافها وإخضاعها للتقسيم.
إن الدول العربية بوضعها الحالي لا يبشر بخيرٍ، حيث أنها متورطة في بيروقراطية أنظمتها، ودكتاتورية حكامها، وعاجية حكمهم، ويغرق شعوبها في التخلف والفقر والبطالة وغياب دعم البحث العلمي وعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي الحصيلة شعوب متخلفة فكرياً، غير ناهضة، ولا تستطيع أن تقوم لها قائمة لطالما أنها تعتمد اعتماداً كلياً في اقتصادها الاستهلاكي على الموارد والمساعدات الخارجية والمرتبطة بأجندات أولئك الذين يدفعون. وعلى صعيد الصراعات؛ يرى البعض أن العرب أضعف من أن يتفقوا وينهوا خلافاتهم ويتنازلوا عن النزعة الطائفية والقضاء على الميلشيات المسلحة والتحرر من قادة تأجيج الطائفية بين الشعوب مالم يحدث تغيير عظيم يأتي من الخارج يدير الصراعات أو ينهيها.
تقوم فكرة التقسيم ليس فقط على التقسيم الجغرافي للأرض، وإنشاء الحدود، بل يمتد التخطيط ليشمل ترك المساحة للتنوع الفكري والذي يضم الفكر والفكر المعارض، ومن ثم التأجيج المستمر للصراعات الأيدولوجية بين هذه الطوائف الفكرية الأمر الذي يصل إلى حد الصراعات الداخلية المتناحرة، والتي يحاول كل طرف منها إثبات أن هويته هي الأفضل. تخدم هذه الصراعات في مجملها فقط مطامع الجهات الخارجية في جعل منطقة الهلال الخصيب (منطقة نهري دجلة والفرات وساحل المشرق العربي) على صفيح ساخن، ومشرق عربي يحترق بالصراعات من أجل تقسيم أيسر وأسرع.
" روس-أمريكان" النكهة الصهيونية للتقسيم الجديد لدول الشرق تحت الإدارة الأمريكية والروسية. سيكون الشكل المقترح للخريطة هو إقامة دولة سنية على جزء من الأراضي العراقية، وجزء من أراضي سوريا، في المقابل إقامة دولة للأكراد، ودولة علوية على الساحلين السوري اللبناني، ودولة شيعية جنوب العراق.
تحاول الكتلة الفارسية الإيرانية أن تساهم بذكاء في إسقاط باكستان والسعودية ودول نفطية أخرى في الخليج العربي، وذلك من خلال الحراك السياسي تارة، والتلاعب بالأوتار الاقتصادية تارة أخرى. وعلى الرغم من محاولات إيران نفسها في زيادة رقعة هيمنتها، إلا أنها تبقى ضمن مخطط الاستهداف من قبل منظومة أكبر منها، تهدف أيضا إلى تفتيتيها بالباقيين. حيث ستتعرض إيران نفسها إلى الانقسام إلى عدة أقاليم أو دويلات، الأمر الذي يوهن الجسد الفارسي، مثل سيطرة الأكراد على جزء من الأراضي الإيرانية، وجزء أخر لصالح دولة أذربيجان.
كما سيشمل التقسيم، تفتيت السعودية -المعقل الأساسي للإسلام، بحيث ستذهب أجزاء منها للشيعة مع العراق، وسيتم ضم الأجزاء الجنوبية الغربية إلى اليمن، بينما تكون لأجزاء الشمالية من نصيب مع الأردن. إن فلسطين سيتم ابتلاعها بالكامل وهدم مقوماتها وتشريد شعبها. فبعد الأراضي المحتلة، سيحظى الأردن بالضفة الغربية. أما قطاع غزة فمن المتوقع ضمه إلى أجزاء من الأراضي المصرية في جزيرة سيناء لتقام دولة "سيناغزة" منزوعة السلاح، وعودة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان هناك. تكفلت العروض الأخيرة لتنفيذ هذا الجزء من المخطط بإضافة 720 كلم2 من أراضي سيناء إلى الفلسطينيين، بما فيها 24 كلم2 على طول ساحل البحر المتوسط، وهو ما سيضاعف مساحة قطاع غزة إلى ثلاثة أضعاف، وهذه المساحة تساوي 12% من مساحة الضفة الغربية. في المقابل سيطلب من الفلسطينيين أن يتنازلوا لإسرائيل عما مساحته 12% من مساحة الضفة الغربية، على أن تحصّل مصر من إسرائيل ما مساحته 720 كلم2 من أراضي صحراء النقب.
سيشمل التقسيم المقدسات الدينية الإسلامية. سيحج الناس إلى أماكن العبادة في دول صغيرة لا يعدو حجمها عن حجم إمارة، منها المناطق المقدسة في السعودية. في حين لربما القدس ذاتها تكون دولة بمفردها، أما الحجيج من أجل اللهو أو التجارة؛ فستتوجه الأنظار إلى دولة دبي كرمز إلى ليبرالية العرب.
إن الجهود العربية المساعدة في إعادة ترسيم الحدود ما هي للأسف إلى مباركة من العرب أنفسهم اعتقدوا أنها تخدم مصالحهم، ولكنها في الحقيقة تخدم صنّاع القرار الحقيقيين في العالم وأهدافهم في رسم خريطة رسمية - باعتراف الجميع- لإسرائيل التي طالما رفضها العرب كوجود سياسي يتناقض مع أهداف الوحدة العربية، ومن ثم تأمين الوجود الصهيوني من أي نزاعات ومباركة وجوده وقبول التعايش معه في المنطقة من خلال علاقات تطبيع تلتف كحبل مشنقة على جيد الدول الجديدة المجاورة، وتكون فيه إسرائيل الأسد ملك الغابة المهيمن.
ويبقى السؤال: أليس العرب أوعى من أن يفتت عالمهم الإسلامي وتنفذ على حسابهم المخططات الاستعمارية التي خططتها وصاغتها وأعلنتها الصهيونية والصليبية العالمية؟
أ. سلوى ساق الله