كأننا على موعد مع الهزيمة في شهر تموز. ذلك أن مؤتمر باريس للسلام يجهزنا لهزيمة سياسية لا تقل فداحة عن هزيمة يونيو العسكرية التي حلّت بنا قبل نحو نصف قرن.
(1)
أعلنت في باريس في الثالث من شهر تموز "المبادرة الفرنسية من أجل السلام" التي اعتمدت المبادرة العربية ضمن مرجعياتها، وتم ذلك بعد أيام من إعلان تحالف نتنياهو وليبرمان قبول الأخيرة "بعد تعديلها". تمهيداً للدخول في مفاوضات الحل المنشود. وشاءت المقادير أن تحل في الخامس من شهر حزيران الذكرى التاسعة والأربعون للهزيمة العسكرية الفاضحة التي نزلت بمصر والعالم العربي في العام 1967. وإذ استهدفت إسرائيل آنذاك قصم ظهر العرب، فإنها هذه المرة تحيك مؤامرة تستهدف طرحهم أرضاً وإعلان نهاية الصراع بمشاركة ومباركة عربية. ألَّب علينا المواجع وذكرنا بما نسيناه أو تناسيناه الصحافي الفرنسي الكبير إريك رولو الذي ارتبط اسمه بصحيفة "لوموند" طوال أربعين عاماً، في مذكراته التي نشرت بالعربية في القاهرة، تحت عنوان "في كواليس الشرق الأوسط". وبرغم أن المذكرات صدرت في باريس العام 2012، إلا أن قراء العربية لم يتح لهم أن يطالعوها إلا في العام الحالي (بعد مضى سنة على وفاته)، من خلال ترجمة رشيقة قامت بها داليا سعودي، قدم لها الديبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي وألان غريش محرر "لوموند دبلوماتيك" والابن الروحي للكاتب الراحل.
أهمية الكتاب تكمن في أنه قدم عرضا مستفيضا لخلفيات الهزيمة التي لا يعرفها كثيرون في العالم العربي ويتناساها الساسة الضالعون في المؤامرة الخطرة التي تحاك الآن. وكان إريك رولو من أفضل المؤهلين للكشف عن تلك الخلفيات، ليس فقط بسبب موهبته العالية واتصالاته الوثيقة مع مختلف الأطراف التي فتحت أبوابها وأفشت أسرارها له، ولكن أيضاً لأنه كان صحافياً نزيهاً لم يُخفِ تأييده لحركات التحرر الوطني وحماسته للتجربة الناصرية.
(2)
لست في صدد استعراض الكتاب الذي صدر في 375 صفحة، لكني سأتوقف فقط عند بعض المعلومات ذات الدلالة التي أضافها ونسيناها، والتي يتعين استحضارها ونحن نتأهب لاستقبال رياح المؤامرة الحالية. من ذلك أن الرجل تلقّى دعوة من الرئيس جمال عبدالناصر لزيارة مصر نقلها إليه لطفي الخولي الذي زار باريس آنذاك حاملاً رسالة بذلك المضمون من محمد حسنين هيكل. وحين جاء إلى القاهرة في العام 1963 استقبله الرئيس عبدالناصر (كانت تلك بداية علاقة وثيقة ربطت بينهما) الذي قال له إن إسرائيل يجب أن تعيد الأراضي المحتلة وأن تسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم. أضاف عبدالناصر أنه لا يوجد مشروع لتسويه حالة الحرب لأن إسرائيل لا توافق إلا على سلام بناء على شروطها. وحين سأله إريك: ما هو الحل الذي تقترحه؟ رد عبدالناصر عليه قائلاً: إن كان لديك حل تقدمه، فيسعدني أن آخذه في الاعتبار.
التقط الرجل كلمات عبدالناصر واعتبرها بمثابة "بالون اختبار لجس النبض ودعوة للحوار"، على حد تعبيره. وفي أول زيارة له إلى تل أبيب، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول الذي اعتبره رجلاً معتدلاً وميالاً للحلول الوسط ونقل إليه كلمات عبدالناصر، ووصف تلك اللحظة قائلاً: كنت انتظر أي شيء غير رد فعله الحاد حين باغتني قائلاً: "ولا شبر واحد ولا لاجئ واحد". وكانت تلك الكلمات الوحيدة التي صدرت عنه بجفاء، وبعدها استعاد هدوءه وأجاب عن بقية أسئلته.
الموقف الذي تبنّاه القيادي الإسرائيلي "المعتدل" في ذلك الوقت المبكر، التزمت إسرائيل به طول الوقت في كل مراحل المفاوضات. وقد عبر عنه المسؤولون الإسرائيليون في كل مناسبة. ذلك أنهم لم يكونوا مستعدين لأي كلام بخصوص الأرض أو عودة اللاجئين. بل كلما ازداد توسّعهم في الأرض بقوة السلاح، ازداد تمسكهم بها. وقد نقل عن نائب رئيس مجلس الوزراء إيغال ألون مثلاً قوله إن: إعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا يعني تفكيك دولة إسرائيل.
الرسالة هنا أن إسرائيل تعتبر كل ما وضعت أيديها عليه هو "أرض الأجداد" وعلى كل مَن يتطرق إلى الموضوع أن يضع المعلومة في اعتباره. الأمر الذي يُفترض أن يثير السؤال التالي: على أي شيء يتمّ التفاوض إذاً؟
(3)
الرسالة الأخرى التي نتلقاها من المذكرات هي أن إسرائيل ليست مكترثة بالسلام في المنطقة، ذلك أن تسويه النزاع مع العرب قد يؤدي إلى تسديد ضربة قاتلة للمشروع الصهيوني. وهي الفكرة التي تبناها الصحافي الإسرائيلي مارك هليل الذي نشر كتاباً بعنوان "إسرائيل في مواجهة خط السلام"، وأيّدها علماء اجتماع إسرائيليون اعتبروا أن حروب الأعوام 1948 و1956 و1967 نمَّت الوحدة الوطنية بدرجة فاقت أثر المدرسة والجيش.
أثار إريك رولو هذه النقطة في سياق حديثه عن حوار أجراه مع بن غوريون أحد مؤسسي الدولة في العام 1965 ذكر فيه أن الإحساس القومي لدى الإسرائيلي تغذّى ــ إضافة إلى التوراة ــ على المدرسة والجيش والاقتتال مع العرب. إلا أنه أضاف أن ذلك الصراع له الدور الأكبر في تعميق ذلك الإحساس. وخلال ذلك الحوار كرر بن غوريون لاءات ثلاث: رفض ردّ شبر من الأرض ورفض أي لاجئ إضافة إلى رفض أي تسوية مع الرئيس عبدالناصر.
من النقاط المهمة التي ذكرها في هذا الصدد أن عبدالناصر كان مقتنعاً في البداية بأن الصراع لن يحل عسكرياً، ولذلك سعى إلى التوصل إلى حل عادل يلبي حداً معقولاً من حقوق الفلسطينيين، إلا أن إسرائيل هي التي رفضت أي تفاهم حول الحل. آية ذلك أنه وجه الدعوة إلى ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي لزيارة مصر والتفاهم حول الموضوع، وقد استقبل الرجل الدعوة بحرارة وحمل الفكرة إلى تل أبيب قبل البدء في تحريك الملف. إلا أن رئيسة الوزراء آنذاك غولدا مائير صدّته ورفضت فكرة الزيارة، وما حدث مع غولدمان تكرر مع رسائل أخرى وجهها عبدالناصر للقادة الإسرائيليين، الذين رفضوا في كل مرة دعواته للتفاهم، لأنهم لم يريدوا مخاطبة زعيم عربي له كبرياؤه ويقف على قدميه، وظلوا يؤثرون الحديث مع المهزومين والمنبطحين.
كان إريك رولو في القاهرة خلال الأيام التي سبقت الخامس من يونيو العام 1967، وتصاعدت فيها مؤشرات التوتر بين مصر وإسرائيل بسبب قرار عبدالناصر إغلاق خليج العقبة في وجه السفن الإسرائيلية. في القاهرة. أيضاً انوجد السفير الأميركي روبرت أندرسون مبعوث الرئيس الأميركي ليندون جونسون الذي أوفده لإدارة الأزمة. وكان المبعوث الأميركي قد التقى الرئيس عبدالناصر الذي أعرب عن رغبته في تفادي النزاع المسلح واقترح إرسال نائبه زكريا محيى الدين إلى واشنطن في 7 تموز لاستكشاف إمكانية التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين مع موشيه ديان الذي عيّن لتوّه وزيراً للدفاع. وإلى أن يتحقق ذلك فإن عبدالناصر ذكر أنه سيغمض عينيه عن عبور سفن الشحن الإسرائيلية ذات الطبيعة غير الاستراتيجية باتجاه ميناء إيلات عبر خليج العقبة. وفي اليوم التالي للقاء بعث عبدالناصر إلى جونسون بمضمون مقترحاته التي أكد فيها بقوة رغبته في تسوية النزاع سلمياً. إلا أن الرئيس الأميركي خدعه وكذب عليه. ففي حين طلب منه عدم المبادرة بالنزاع المسلح، فإنه كان قد أعطى لإسرائيل موافقته على شنّ هجوم ضد مصر. وأدى ذلك إلى عنصر المفاجأة الذي أعطى الدولة العبرية تقدّماً حاسماً مكّنها من تحقيق مرادها.
(4)
خطة تدمير الطيران المصري التي حملت اسم "فوكس" كانت معدّة لدى الإسرائيليين منذ العام 1963، بعدما أدركوا أن عدوان العام 1956، الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا، لم يحقق لهم ما يريدون. ذلك أنهم خلال تلك الفترة كانوا قد جمعوا معلوماتهم وأعدّوا عدّتهم للانقضاض على مصر واجتياح الجيران بما يضيف إلى إسرائيل ثلاثة أضعاف مساحتها. ومع حلول صيف العام 1967 اعتبرت قيادة الأركان الإسرائيلية أن قرار شنّ الحرب وتوجيه الضربة قد نضج. وكانت العقبة التي واجهتهم أن رئيس الحكومة ليفي أشكول كان محبّذاً للحل السلمي ورافضاً فكرة الحرب الوقائية. وشهدت إسرائيل خلال تلك الفترة صراعاً غير مسبوق في تاريخها بين رئاسة الأركان والحكومة. إذ كانت تلك المرة الأولى التي يطمع فيها العسكريون في فرض قرار سياسي على السلطة المدنية. وبحسب وصف الكاتب فإن الصراع أخذ أشكالاً عدة من ممارسة للضغوط وعمليات الابتزاز إلى رشق بالسباب ونصب تحديات وتهديدات مستترة بالانقلاب. الشاهد أن الحكومة تعرضت للتضليل والابتزاز. وهو ما اعترف به الجنرال رابين في وقت لاحق، حين صرّح لإريك رولو في حوار نشر على الصفحة الأولى لـ "لوموند" في شباط عام 1968، بأن عبدالناصر لم يكن يريد الدخول في حرب وإن تظاهر بغير ذلك. وبرغم أن رئاسة الأركان الإسرائيلية كانت مدركة أنه ليست لديه نية القتال، فإنهم مارسوا ضغوطهم الشديدة على الحكومة التي وافقت أخيراً على شن الحرب. كما مارست اللوبيات الصهيونية في واشنطن ضغوطها على الرئيس جونسون حتى انتزعت منه مباركته للقرار، إلى أن دارت الساعة ووقعت الواقعة في الخامس من شهر تموز. وأحدثت دويها المشهود في العالم العربي مصحوباً بجرح كبير وعميق، لم يندمل حتى الآن.
في المذكرات وقائع ودروس عديدة مهمة يخلص المرء منها إلى أن مصر هي المشكلة وهي الحل، وضعفها وقوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية هي العنصر الحاسم في المواجهة. وما لم يتحقق ذلك، فإن الاستكبار الإسرائيلي سيستمرّ ويتزايد، ويظلّ كل حديث عن المفاوضات من قبيل الهراء الذي يضيّع الوقت ويبدّد الجهد. وهو ما يسوّغ لنا أن نقول بأنه في ظل موازين القوة الحالية، فإن أي حديث عن المفاوضات يظل حلقة في مسلسل الهزائم التي أدمنها بعض العرب. وأخشى أن يستثمر الإسرائيليون الوهن العربي المخيم لطي الصفحة واختتام المسلسل بحلقته الأخيرة، التي يلوِّح فيها التحالف الفاشي في تل أبيب بتوجيه الضربة القاضية من خلال "التوافق" مع بعض القادة العرب "المعتدلين"!