ما أجملها من أيام خلت مرت علي امتنا العربية والإسلامية بشكل عام ، ومجتمعنا الفلسطيني المتجذر بتراثه وحضارته العربية والإسلامية بشكل خاص ، أيام خلت كان لكل شيء طعم في رمضان، وغيره ، كان لكل شيء حكاية مرتبطة بالتراث العربي الأصيل ، وفي ظل هذا التاريخ المجيد أجد لزاما عليّ كمسلم عربي أعشق تراثي الذي تربيت عليه، وتر سخت فيه قيمي التي لن تتبدل، رغم العواصف والشوائب التي مرت علي شعبي وأمتي ، ورأيت - محافظة منى - علي نسقنا التراثي والقيمي ، أن أتحدث عن فكرة تطور( فوانيس رمضان) هذه الظاهرة الجميلة الشائعة في العالم الإسلامي والتي ارتبطنا بها منذ طفولتنا 0
ما معنى كلمة فانوس :
يقول (الفيروز بادي) في كتابه" القاموس المحيط" إن كلمة فانوس تعنى نمام ، وأطلق عليه هذا المعنى لان حامله يظهر في وسط الظلام 0
نشأته وتاريخه:
من المثبت تاريخيا ، وحسب قراءتنا التاريخية ان فكرة الفانوس بدأت منذ عصر "صدر الإسلام" وكان الهدف منه الإضاءة ليلاً للمصلين والسكان للذهاب إلي المساجد وزيارة الأقارب والأصدقاء خاصة بعد ساعات الافطار وساعات التراويح وبعدها ، وهذا يعتبر جزء من نسق حضاري اسلامي قديم ، وخدمة للمسلمين وتحقيق رفاهيتهم .
ولكن فكرة فوانيس رمضان بدأت عملياً في ليلة( الخامس من شهر رمضان عام 358 هجري ) ، حيث وافق هذا التاريخ دخول الخليفة ( المعز لدين الله الفاطمي ) لأرض مصر حيث خرج أهلها ، واستقبلوه بالمشاعل والفوانيس وهتافات الترحيب والأناشيد، ونتيجة لجمال، وبهجة المنظر في تلك الليلة استحسن الناس هذه الفكرة ،وأصبحت من العادات الحسنة في تراثنا الإسلامي، وتحول الفانوس من وظيفته الأصلية الإضاءة ليلاً إلي وظيفة ترفيهية زمن الدول الفاطمية 0
فوانيس فقراء ولاجئي مخيمات غزة كما نذكرها :
ارتبط الفانوس عشقا مع أطفال فلسطين ، وأصبح مصاحبا للأطفال ، مؤنسا لهم في صيامهم ، حيث كان الاطفال يطوفوا الشوارع مطالبين من الأهالي بقطع من الحلوى ، ومن هنا انطلقت أنشودة الأطفال ( حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو ) ، واحيان كان العديد من الأطفال يصاحبون المسحراتي ليلاً ، حاملين معهم صديقهم الفانوس المضاء بشمعة ملونة ..
صناعة الفوانيس:
كان الفانوس قديما يصنع بشكله التراثي الجميل إما من الألمونيوم أو النحاس المزخرف بالزجاج الملون ذو الفتحة الخاصة لوضع الشمعة ، وكانت فوانيس الميسورين لها أشكالها وزخارفها الخاصة ، أما الفقراء فلهم الله أولا ، وجهدهم وإبداعاهم ثانيا ، وتحت شعار الحاجة ام الاختراع استذكر هنا فوانيس اللاجئين الفلسطينيين، التي صاحبت هجرتهم القسرية من ديارهم ، وما صاحبها من فقر مدقع، حيث كان أطفال المخيم يجوبون الشوارع بحثاً عن عبوات مشروبات فارغة أو تنكات متناثرة من بقايا زيت سيارات ،أو بقايا معلبات فارغة متناثرة هنا وهناك ..
كان طفل المخيم يحضر مسماراً ، ويشرع بتثقيب العلبة ويبدأ بقص باب صغير لإدخال جزء من شمعة يتقاسمها مع جاره الفقير، ليصنعوا فانوساً يجلب التكيف مع الذات ويحقق الهدف واستطاع الفلسطينيون في مخيماتهم أن ينزعوا البسمة عنوة رغم القهر والبؤس والفقر المتعايش معه، ولايزال جيل النكبة والنكسة يستذكر دوما تلك الأيام الخوالي ، كان أطفال المخيم يطوفون بذكائهم وينشدون أمام كل بيت فلسطيني، وينشدوا لرب أو لربة الأسرة، ما يحبه ويتمناه من الله فمن كان يرجو من الله طفلا بشروه بأغنية حالو يا حالو ويدعو له بان يرزق طفلا ، ومن كان يتمنى شفاءاً ، أو من كانت تريد عريسا كانت الأغنية موجهة بشكل ذكى ليقتص بعض من الحلوي او حبات القطايف المعده في بيوت اللاجئين ..
ما أجمل تلك الأيام التي يشهد التاريخ ان الأطفال لم يلاقوا أي صدود او ضجر من أي رب بيت من جيرانهم او حاراتهم ، كان الأطفال يجمعون ما يحصلوا عليه من حلويات القطايف، أو التمر، ويتقاسمونه بينهم ومنهم من كان يتبرع به في الساجد على مصلين التراويح ، وآخرون يبيعه لقالة صغيرة مقابل شمعة لإضاءة الفانوس التنكي ، وحتى الفقراء في المخيم كان يعطيهم نصف رغيف علي الأقل رغبة منه لمشاركة الاطفال في فرحتهم وطقوسهم ، حقا كان الاطفال والاهالي يشعرون بالسعادة رغم فقرهم ، لأن النسيج الاجتماعي في المخيم كان متينا ، والنسق القيم عصي عن التبدل ..
أسماء فوانيس رمضان عبر التاريخ :
اعتاد العرب أن يسموا كل شيء بأسماء تدل على الارتباط الواقعي بالبيئة، وكلنا نعرف أسماء السيوف والخيول بأسمائها المختلفة ،ولكن من الغريب أن العرب أطلقوا على الفانوس حوالي عشرين اسماً منها ( أبو شرف- أبو مرق – أبو لموز – أبو حشوه- المسدس – الصاروخ – الدبابة – شقة البطيخ -علامة النصر – أبو للجم – الترام – وكان يطلق علي أكبرهم( أبو ولاد) وهو الفانوس المشابه للفوانيس التي توضع على الشوارع العامة في رمضان، وهو عبارة عن فانوس كبير الحجم معلق معه أربع فوانيس في جوانبه الأربعة ) 0
وفي مخيمات اللجوء كان كل طفل يسمي فانوسه بأسماء لها علاقة بالعودة والكفاح او يعطيه أسم شهيد محبب في القرية او المخيم ..
هذه نظرة تاريخية تراثية عن فوانيس رمضان تاقت نفسي أن أذكركم بها، أذكركم بأيام طفولتكم الجميلة عسى أن تجلى صدوركم وتستذكروا أيام جميلة قد خلت ، أيام النقاء والبراءة والطهارة، أيام الحب والإخوة أيام أن تقاسمنا فيها اللقمة سويا ،لنحيا ، وتحيا فلسطين وأمتنا العربية حرة نقية من كل الشوائب ..
بقلم/ د. ناصر اليافاوي