يجري حديث يكتنفه الحذر والغموض، حول جولة جديدة لتحقيق المصالحة الفلسطينية، ونظرًا لنتائج الجولات السابقة، التي لم تحقق إلا المزيد من تعميق الانقسام وإطالة عمره، فقد وصل الرأي العام الفلسطيني إلى حالة من اليأس، جعلته يدير الظهر للحكاية كلها.
المحاولات السابقة كانت جميعها مخلصة وتتوخى النجاح، حين تولتها مصر لعدةمرات، وقطر كذلك، والسعودية أيضًا، ومع أن الفشل السابق يجب ألا يلغي أمل النجاح اللاحق، فإن على كل من يرغب أو يضطر لمعالجة انقسام الفلسطينيين، أن يتنبه إلى الأسباب التي أدت إلى الفشل، لعل تفاديها يحقق النجاح.
أولاً.. الجذر السياسي: عندما كان الوسطاء يصطدمون بالاختلاف السياسي بين طرفي الانقسام، وهو في الأساس اختلاف حول مبدأ التسوية أو المقاومة، كانوا يلجأون إلى صيغ مبهمة اتخذت طابع القنبلة الموقوتة التي لا بد أن تنفجر لتعيد الأمور إلى نقطة الصفر أو إلى ما دونها، ودون حل لهذا الجذر، فإن أقصى ما يمكن توقعه هو بلوغ حلول مؤقتة ولا أكثر من ذلك.
ثانيا.. المصالح: منذ بدايات الانقسام وإلى أيامنا هذه، لم تكن السلطتان في غزة والضفة تحتفظان بما تحت أيديهما كأمانة تنتظر الوقت والظرف الملائمَيْن لردها إلى أصحابها كما هي، بل عمد كل طرف إلى تجذير سلطته، وتكريس مصالحه،ولم يحدث على مدى السنوات العشر الماضية، أن حلت أي قضية إشكالية، فرعية أو تفصيلية، بدءًا بالشؤون الإدارية ومرورًا بالشأن المالي كالرواتب والموازنات وتحصيل الضرائب، وانتهاءً بالأمن الذي يعتبر إكسير حياة أي سلطة في أي زمان ومكان.
إن المصالح التي تجذرت ومدت تأثيرها لتطال كل نواحي الحياة في المجتمع الفلسطيني كانت وما زالت سببًا أساسيًا في استمرار الانقسام.
ثالثًا.. العامل الخارجي: إن فلسطين وفي كل زمن شديدة الإغراء لمن يراها شركة استثمارية توفر لكل صاحب أجندة أسهمًا ثمينة فيها، ولهذه الشركة عناوين متعددة، بدءًا من الواجب الأخلاقي لدعم المحاصرين في غزة وليس انتهاءً بكل أدبيات وشعارات "الجهاد" لتحرير أرض الرباط، وجميع أصحاب الأجندات يدركون مكانة إسرائيل في هذه الشركة، وقدراتها على تحديد ما يمر وما لا يمر، وكل من يسعى لخدمة أهل غزة أو من يستخدم أهل غزة لخدمة مصالحه، فلا مناص أمامه من طرق الباب الإسرائيلي للحصول على التسهيلات بدءًا من إدخال إبر الخياطة،إلى السماح ببناء مطار أو ميناء، وإسرائيل هنا لا تمنع ولا تمنح أي شيء
كعمل خيري، والنموذج التركي خير شاهد على ذلك.
رابعًا.. الأداء: ما زال أداء محاولات المصالحة يقتصر على الوسيلة التي لم تتغير، وهي دعوة وجهاء الفصائل إلى اجتماع أو دورة اجتماعات لاتخاذ قرار ثم تنفيذه على الأرض، هذه الفصائل بلغت مرحلة من العجز وقلة الحيلة في التأثير على مجريات الأمور على الأرض، وحين يعي المتدخلون أو الوسطاء وضع الفصائل جيدًا، فلا مناص ساعتئذ من تغيير النمط المجرب وتعديل المسار الذي أفضى إلى الفشل المتمادي، فللفصائل (كفصائل) نفوذ معنوي متراجع مستمد من التاريخ، وليس من الواقع الجديد الذي يعيشه الفلسطينيون، فضلاً عن أن ما في داخل الفصائل من تقاطعات وتناقضات يجعلها هي ذاتها بحاجة إلى معالجة قبل أن تسند إليها مهمة معالجة القضية الكبرى، أي قضية الانقسام وإفرازاتها.
فما الحل إذن؟
أولاً، يتعين على حماس تحديدًا، أن تعلن التزامها الكامل بما التزمت به منظمةالتحرير، مع احتفاظها بحقها في المعارضة داخل الأطر الشرعية، دون القيام بسلوك مستقل، لخدمة موقفها، وقد اقتربت فعلاً من هذه النقطة دون إعلان.
ثانيًا، توحيد الشرعية الوطنية من أدق تفاصيلها حتى أعلى عناوينها، وهذا يتطلب الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية، مع تعهدات وضمانات فلسطينية وعربية للالتزام التام بنتائجها، ويكون معلومًا أن من لا يلتزم يُقاطع عربيًا.
ثالثًا، وقف جميع الوساطات مع إسرائيل بشأن غزة، وتحديد معالجة الأمر بالسلطة الشرعية المنتخبة التي تستطيع الاستفادة من مكانة مصر ودورها في الشأن الفلسطيني والإسرائيلي.
هذا كله وإن كان بحاجة إلى جهود مضاعفة وإلى وقت طويل، فإنه لا يمنع المحاولة للتهدئة وتخفيف الاحتقان قدر الإمكان، فهذه أمور مفيدة كالمسكنات الضرورية إلا أنها لا تصلح كحل جذري ناجع.
نبيل عمرو