مؤتمر هرتسيليا 16: الحضور العربي… وجو كوكس

بقلم: فايز رشيد

لعل مؤتمرهرتسيليا هو أهم المؤتمرات التي تُعقد في إسرائيل من بين ثلاثة سياسية استراتيجية، هي إضافة إلى الأول: مؤتمر "معهد تخطيط سياسات الشعب اليهودي"، ومؤتمر "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي"، نشاط هذه المؤتمرات مختص بصياغة تقارير استراتيجية تشكل، أسساً مهمة لسياسات وقرارات الحكومات الإسرائيلية.
منذ عام 2000عقدت أول دورة لـ"مؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية" المتعدد المجالات، في هذه المدينة التي أقيمت بداية كمستوطنة صهيونية عام 1924 على أراضي قريتي اجليل والحرم (سيدنا علي)، اللتين دمرهما جيش الاحتلال (مثل 465 قرية أخرى) ثم تحولت المستوطنة إلى مدينة هرتسيليا نسبة إلى تيودور هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية. في هرتسيليا، انطلقت أعمال المؤتمر السادس عشر، من مقر الرئيس الإسرائيلي رؤبين ريفلين، تحت شعار "أمل إسرائيلي رؤية أم حلم"؟ وفقا لرؤية طرحها الرئيس الإسرائيلي ريفلين العام الماضي، ودعا فيها إلى بلورة ما وصفه بـ"هوية إسرائيلية جديدة في دولة إسرائيل اليهودية والديمقراطية"، على حد زعمه. ركزت جلسة الافتتاح على "رؤيا" ريفلين من أجل صوغ "هوية إسرائيلية مشتركة"، جامعة لما يطلق عليه ريفلين "القبائل الأربع" المكونة "للمجتمع" الإسرائيلي، وهي بحسب تعريفه: "العلمانيون، الصهيونية الدينية، الحريديم (الأتقياء الأصوليون)، والعرب"، بالطبع جاءت دعوته لبناء الهوية تحت السقف الإسرائيلي الصهيوني. كذلك، ادّعى ريفلين بأن هدفه يتمثل في ما سماه "تقاسم العبء القومي للدولة، وضمان المساواة التامة في إسرائيل اليهودية والديمقراطية".
شارك في الجلسة الافتتاحية عدد من قادة الأحزاب الإسرائيلية، وفي مقدمتهم رئيس البيت اليهودي نفتالي بينت، وزعيم حركة شاس أريه درعي، ورئيس القائمة العربية المشتركة أيمن عودة، وزعيمة حركة "ميرتس" زهافا جلئون. إنها ليست المشاركة الأولى لعرب وفلسطينيين في هذه المؤتمرات المخصصة في العادة لمناقشة التحديات الأمنية والاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل، ويحضرها عادة كل من وزير الأمن الإسرائيلي، ورئيس شعبة الاستخبارات في الجيش، ورئيس الحكومة، للعلم، المؤتمر الأول، كان قد خصص دورته قبل 16 عاماً، لمناقشة الخطر الديمغرافي العربي على إسرائيل، ومن اقتراب فقدانها للأغلبية اليهودية في الداخل، واقتراب تحوّل العرب الفلسطينيين إلى أغلبية السكان بين النهر والبحر.
من ناحيته، ألقى رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الجنرال هرتسي هليفي، كلمة شملت استعراضاً للتحديات الاستراتيجية التي يواجهها الكيان. تحدث هليفي عن أن إسرائيل قوية وقادرة على الردع، وأن حزب الله قوي ولكنه لن يجازف بمعركة جديدة. كما هدد بأنه "في حال جازف حزب الله بشن حرب علينا، فان إسرائيل ستحول لبنان إلى دولة للاجئين". أما كيسنجر فقد أكد على أن أمن إسرائيل في ظل الفوضى العارمة التي يمر بها الإقليم، هو قوي ومصان، لكن على المدى البعيد سيواجه تحديات جمة. إن أهم ما قيل، كان يتعلق بالشأن الداخلي الإسرائيلي، ومستقبل هذه الدولة في ظل سياسات نتنياهو اليمينية المتطرفة. تحدث كل من إيهود باراك، موشيه يعلون وصبّا جام غضبهما على نتنياهو وسياساته التي تهدد دولة اسرائيل، وتحول القيادة السياسية في زمنه إلى قيادة مجرورة ومنفلتة بدلاً من أن تكون طليعة للمجتمع.
ما قاله رئيس الدولة رؤوبين ريفلين هو الأخطر على الإطلاق، ولكنه قيل بهدوء وبذكاء، فما الذي يعنيه من تقسيماته الغريبة؟ ببساطة يعني أن إسرائيل القوية مازالت تعيش أزمتين، الأولى وجودية "أزمة هوية"، والثانية وطنية "أزمة مجتمع"، فهي دولة قوية إلى الآن، بحكم العلاقة مع أمريكا، ولكنها مقبلة على أزمات داخلية كبرى لن تستطيع واشنطن المساعدة في إنقاذها منها، ومن أبرز أزماتها هوية هذه الدولة التي تساءل عن ماهيتها؟ ريفلين بتقسيماته الأربعة المُكوِنة لـ"المجتمع" الإسرائيلي يمارس ديماغوجية مكشوفة، فدعوة كهذه وضمن هذا الوصف هي تمويه وتضليل ديماغوجي، تبدو وكأنها تنطلق من قاعدة "المساواة"، وهي لم تكن قائمة ذات يوم في الدولة الصهيونية، في ما يتعلق بفلسطينيي المنطقة المحتلة عام 48، أهلنا هناك يعيشون ظروف التفرقة والتهميش والنقص الفادح في الخدمات، وميزانيات التطوير والرفض المطلق للإفراج أو تعديل الخرائط الهيكلية للمدن والبلدات العربية، بل رفض الاعتراف بأماكن السكن الموصوفة "بالعشوائية" للفلسطينيين، خاصة في النقب والجليل.
وفقا لريفلين فإنه يتوجب على الحريديم والعرب، تقاسم "العبء القومي للدولة" بالخدمة في الجيش الصهيوني، وضمان المساواة التامة في إسرائيل "اليهودية والديمقراطية")تصوروا مدى الخبث والتضليل في دعوته) وكان قد أوضح ذلك في مقابلة معه في 17 يونيو الحالي، حين دعا الحريديم والعرب إلى الخدمة في جيش الاحتلال، لأن فلسطينيي 48 مُستبعدون بقرار صهيوني من الالتحاق بالجيش لِـ"عدم ولائِهم" بالطبع، فضلاً عن رفضهم للمشاركة في جيش وظيفته ذبح أبناء شعبهم والتنكيل بهم، فإن وضعهم في سلة واحدة مع الحريديم، يخفي حقيقة ان الحريديم الذين يلوذون بذريعة تعلُّم التوراة والعلوم الدينية للتهرب من التجنيد، يحظون بمزايا هائلة، بدءاً بالميزانيات الضخمة التي تبتزها أحزابهم، لقاء مشاركتها في الحكومات أو دعمها من الخارج في التصويت على مشاريع القوانين في الكنيست، ناهيك عن القوانين التي تسنّها الكنيست… لصالحهم، فيما لا يتمتع فلسطينيو 48 بأي ميزة كهذه، حتى أولئك الذين يخدمون رسمياً في جيش الاحتلال مثل الدروز والشركس، فإنهم لا يحظون بمكانة اليهود من أقرانهم في الجيش، سواء في السكن أو في مساعدات الأسر الشابة وغيرها من الامتيازات.
إن اعتبار "عرب إسرائيل" كما تسميهم إسرائيل ومعظم العرب، بأنهم "قبيلة" من أربع قبائل، هو تضليل وطمس للحقائق والوقائع التاريخية، التي جرى ويجري تزييفها وفقا للأضاليل والأساطير الصهيونية.
بالنسبة للمشاركة العربية في هذه المؤتمرات، فإنها تقوم (وفقا لوجهة نظر المشاركين بالطبع) على طرح آرائهم على قاعدة "الاشتباك" مع الدولة الصهيونية في عقر دارها (كما يقال)، ظنّاً من هؤلاء أن بمقدورهم بخطاب إنشائي لا تنقصه الحماسة الصوتية ولا بلاغة ُاللغة، التي تبقى وستبقى قاصرة عن التأثير في سلوك قادة اسرائيل الفاشيين والعنصريين، أو تجعلهم يتراجعون عن مخططاتهم المُعلنة والمُترجمة خطوات عملية على أرض الواقع، استغلالاً لحال الضعف والاستجداء التي تطبع ممارسات النظام الرسمي العربي الراهن. يظن هؤلاء، لفرط سذاجتهم وأوهامهم وجهلهم في قراءة هذا العدو المابعد فاشي، أن مجرد المشاركة في مؤتمر هرتسليا، أو أي نشاط دعائي في مؤتمر إسرائيلي، سيدفع قادتها إلى التراجع أو قبول ما هو معروض عليهم عربياً، منذ عقد ونيف، تحت مُسمّى مبادرة السلام العربية، ما يعكس جهلا في منسوب الإدراك لديهم، بأن إسرائيل ما كانت لتُقدِم على كل ما تقدم عليه من تهويد ومصادرة للأراضي وزرع الاراضي المحتلة بالمستوطنات، والعمل بدأب ومثابرة على تغيير الطابع الديمغرافي في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس، لتتراجع عن خطواتها اقتناعا بما قاله ويقوله البعض من خطابات رنانة من على منابر هذه المؤتمرات. إذا كانوا يعتقدون بذلك، فتلك مصيبة، وإن كانوا لا يدركون حقيقة الكيان، فالمصيبة أعظم.
حول مقتل النائبة في البرلمان، البريطانية جو كوكس، فتش عن إسرائيل! كوكس توفيت عقب تعرضها لإطلاق نار وعملية طعن في بلدة بريستال شمال إنكلترا. هذه المناضلة من أكبر مؤيدي الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتدعو إلى مقاطعة الكيان، وسبق لها أن حاولت نفي حق اليهود "التاريخي" في فلسطين ـ من خلال دعوتها لأهمية النظر إلى التاريخ والجغرافيا ـ حيث كانت فلسطين موجودة، ولم يكن أي أثر يثبت وجود إسرائيل.
جو كوكس في تأييدها للقضية الفلسطينية، نسخة مكررة عن المناضلة الأمريكية المرحومة راشيل كوري، التي قتلتها عمدا جرافة إسرائيلية، وكوكس قتلت بالرصاصات الغادرة والطعن. إنها رسالة صهيونية إلى كل مؤيدي حقوق شعبنا من المنتشرين في كل دول العالم، والآخذ عددهم في التزايد. هؤلاء بتأييدهم لقضيتنا وحقوقنا الوطنية يوجعون الكيان الصهيوني في خاصرته، من خلال دعوتهم إلى مقاطعته، أكثر من أسلحة كثيرة وكتائب عديدة من المدفعية المتطورة، والصواريخ حديثة الصنع. "التبرير" لقتلها جرى على الطريقة الصهيونية، بأن القاتل مختل عقليا! نسأل، لماذا فقط تم استهداف كوكس (المؤيدة للفلسطينيين) دون كل النواب الداعين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي؟ أصدفة هذه؟ الغريب ومثلما قال صحافيان بريطانيان عنها، بأنه لو كان القاتل مسلما، لملأ الإعلام الأرض ضجيجا حول الإرهاب العربي والإسلامي. كما أن الإعلام تحدث قليلا عن مقتلها، أسألهم لماذا؟ ليس من الصعب معرفة الجواب.
لقد خسر شعبنا الفلسطيني وامتنا العربية بـقتل كوكس مناضلة قوية وشجاعة ومدافعة مميزة وعميقة في إنسانيتها ونضالها ضد القهر والظلم والعبودية، ودفاعها بقوة عن حقوق الإنسان في جميع المحافل الدولية.

 د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني