التعذيب: ألم لا ينتهي بفعل الزمن

بقلم: عبد الناصر فروانة

كلما طُلب مني الكتابة عن التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي، كلما وجدتني مضطرا لأن أستحضر تجربتي الشخصية، والتي تتقاطع مع التجربة الجماعية. فتجدني أشعر بالحزن والألم، وينتابني شعور الكراهية وأحيانا الانتقام. فتجارب التعذيب مريرة ومؤلمة، والذكريات حاضرة وراسخة، ترفض الرحيل أو الانفصال، فتزيد من آلامنا ألماً، وللأسف فإن الألم باقٍ لا ينتهي بفعل الزمن.
    لقد عشت وعاش الآخرون تجارب لا يمكن تصورها، بل ويصعب على الإنسان تخيلها ووصفها، واستمعت لشهادات عديدة روت فظائع الموت، التي تملأ السجون الإسرائيلية، من أناس قُدر لهم أن يخرجوا من السجن أحياء، وكان حديثهم يفيض بالألم والمرارة.
فلقد أفاد هؤلاء الناجون من الموت بأن أشكال التعذيب في السجون قد تطورت أساليبها، وتنوعت أشكالها الجسدية والنفسية والتي لا يمكن الفصل بينهما، وأن آثارها تغولت في الروح والجسد لتمتد إلى ما بعد فترة الاعتقال، لتلحق أضرارا بعيدة المدى بالصحة الروحية والنفسية والجسدية، وقد يصعب استئصال موطن الألم الجسدي أو النفسي، وهنا يكمن جوهر فظاعة التعذيب.
   إن التعذيب بشقيه الجسدي والنفسي، لم يكن يوما حادثة عفوية أو فردية، تُمارس داخل غرف التحقيق في هذا السجن، أو في محيط ذلك المركز المخصص للتوقيف، وإنما شّكَل نهجاً أساسياً وممارسةً مؤسسيةً، وجزءً لا يتجزأ من معاملة المعتقلين الفلسطينيين اليومية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ويشارك فيه كل من يعمل في المؤسسة الأمنية، وبشكل مباشر أو غير مباشر ينضم إليهم العاملون في مهنة الطب، بما يتنافى وأخلاقيات ومبادئ مهنتهم (الإنسانية).
    كما ومن الخطأ أيضاً الاعتقاد بأن التعذيب يُمارس فقط في أقبية التحقيق، أو من قبل المحققين فقط، أو أنه يُقترف بحق فئة عمرية أو شريحة اجتماعية دون غيرها، لأن الحقيقة تقول بأن التعذيب قد مُورس ويُمارس في كل الأوقات والأزمنة على مدار الساعة وبدون تمييز، فهو يقترف بحق الذكور والإناث، رجالا وشبيبة، فتية وفتيات، شيوخا وأمهات، مرضى ومصابين ومعاقين، صحفيين وأكاديميين، نوابا ووزراء سابقين وقيادات سياسية، دون مراعاة للجنس أو العمر، أو طبيعة العمل والمكانة الاجتماعية والأكاديمية والسياسية. كما أن هناك تلازما ما بين الاعتقال والتعذيب، إذ تؤكد كل الشهادات أن 100% ممن زجوا في السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف، قد تعرضوا لشكل أو أكثر من أشكال التعذيب الجسدية والنفسية. مما يعني أن ما من فرد، من بين أكثر من ثمانمئة ألف فلسطيني تعرضوا للاعتقال، إلا وقد مورس بحقه تعذيب جسدي، أو نفسي، أو معنوي، أو إهانة أمام الجمهور وأفراد العائلة، أو معاملة قاسية ولا إنسانية أو المس بالكرامة ... إلخ. وأن نسبة عالية منهم تعرضوا لأكثر من شكل من أشكال التعذيب الجسدي أو النفسي والتي تجاوزت الثمانين شكلاً، منها على سبيل المثال لا الحصر الشبح والهز العنيف والصعق بالكهرباء والعزل الانفرادي والتكبيل على شكل موزة وعصب العينين والصفح والضرب والحرمان من النوم والوقوف فترة طويلة والضغط على الأماكن الحساسة بالجسم والتعرض للبرودة أو الحرارة الشديدة، ..الخ.
    وبالإضافة إلى ذلك، استخدم الجنود والمحققون أساليب لا أخلاقية في التحقيق مع الأسرى بنسب متفاوتة، كالتعرية والتحرش الجنسي وتهديدهم بالاغتصاب، وأن90 % من الأطفال المعتقلين خلال العقد الأخير قد عُوملوا بطريقة عنيفة جدا، فيما بلغت نسبة الذين تعرضوا منهم للتحرش والتهديد بالاغتصاب20%.
    هذا وقد لوحظ تحول كثير من المستوطنات الى مراكز للتعذيب والابتزاز والمساومة، خاصة الأطفال القُصّر، وأن القضاء الإسرائيلي يستند في محاكمه الى اصدار أحكامه على ما ينتزع منهم من اعترافات، دون مراعاة الظروف والأدوات التي استخدمت بحقهم لانتزاع الاعترافات بالقوة وتحت وطأة التعذيب.
     إن هذه الأساليب وغيرها قد أودت بحياة واحد وسبعين اسيرا فلسطينياً في أقبية التحقيق، منذ العام 1967، وعشرات آخرين توفوا بعد خروجهم من السجن متأثرين بما ورثوه عن التعذيب، هذا بالإضافة الى إصابة عدد كبير لم يتم إحصاؤهم من الأسرى الذين خرجوا من السجون والمعتقلات بعاهات مستديمة، وقد أكدت العديد من الدراسات العلمية على أن الأعراض والأمراض المزمنة والمستعصية التي ظهرت أو بدأت تظهر على الأسرى المحررين لها علاقة بصورة دالة إحصائياً بخبرة السجن والتعذيب. لذلك فإن جميع الأسرى المحررين بحاجة الى إجراء فحوصات شاملة، وبصورة دورية كل فترة للتأكد من خلوهم من المرض.
ولعل أشهر حوادث التعذيب التي افضت الى الموت داخل السجون، هي على سبيل المثال لا الحصر:
-       قاسم أبو عكر، من القدس. استشهد بتاريخ 23/3/ 1969 في سجن المسكوبية.
-       ابراهيم الراعي، من قلقيلية. استشهد بتاريخ 12/4/1988 في سجن الرملة.
-       مصطفى العكاوي، من القدس. استشهد بتاريخ 4/2/1992 في سجن الخليل.
-       عطية الزعانين، من غزة. استشهد بتاريخ 13/11/1990 في سجن غزة المركزي.
-       خالد الشيخ علين من غزة. استشهد بتاريخ 17/12/1989 في سجن غزة المركزي.
-       عبد الصمد حريزات، من الخليل. استشهد بتاريخ 25/4/1995 في سجن المسكوبية.
-       عرفات جرادات، من الخليل، استشهد بتاريخ 23/2/2013 في معتقل مجدو.
-       رائد الجعبري، من الخليل، استشهد بتاريخ 9/9/2014في مستشفى سوروكا بعد تعرضه للضرب في سجن ايشل.
    وتعد دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الدولة الوحيدة في العالم التي شرعت التعذيب قانوناً في سجونها ومعتقلاتها، وكانت توصيات لجنة لنداوي عام 1987 هي أول من وضعت الأساس لشرعنته، ومنحت مقترفيه الحصانة القضائية الداخلية، الأمر الذي فتح الأبواب على مصراعيها لارتكاب المزيد من الانتهاكات والجرائم من قبل المحققين والعاملين في السجون دون رقيب أو حسيب. بل وفي بعض المرات تمت مكافأتهم على ما اقترفوه من جرائم بحق المعتقلين، وبذا فقد شكلت حكومة إسرائيل حالة فريدة من نوعها، وسجلت سابقة خطيرة هي الأولى في العالم في اقتراف جرائم التعذيب سراً وعلانية، وقضاءً، أمام مرأى ومسمع من العالم أجمع.
    وتمارس إسرائيل التعذيب في سجونها ومعتقلاتها ليس من أجل القضاء على "القنابل الموقوتة" وانتزاع المعلومات والاعترافات حسبما تدعي أجهزتها الأمنية فقط، بل وتهدف أيضاً إلى هدم الذات الفلسطينية والوطنية، وتدمير الإنسان جسدا وروحاً، وتحطيم شخصيته، وتغيير سلوكه ونمط تفكيره وحياته، ومعتقداته السياسية، لتبقى آثار التعذيب وتوابعه ملازمة له طوال فترة اعتقاله، ثم تلاحقه إلى ما بعد خروجه من السجن، ليصبح عالة على أسرته ومجتمعه.
وبدون شك فإن أيام وشهور وسنين الأسر وما يتخللها من تعذيب جسدي ونفسي، لا يمكن أن تمر دون أن  تترك آثارها النفسية والجسدية على الأسرى وذويهم، وكيف يمكن أن تمر والنماذج القاسية منتشرة أمامنا وبيننا ومن حولنا بالآلاف..؟.
     فالتعذيب وأياً كان شكله، يُعتبر انتهاكا أساسيا وخطيراً لحقوق الإنسان، وجرم فظيع وبشع يرتكب بحق الإنسانية، و استمراره  يعتبر بمثابة وصمة قبيحة تدنس ضمير الإنسانية، ووصمة عار على جبين الحضارة العصرية والديمقراطية المنشودة والسلام المأمول .
     يذكر أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة كانت قد أقرت في الثاني عشر من شهر ديسمبر من عام 1997، يوم السادس والعشرين من حزيران/ يونيو من كل عام، يوماً لمساندة ضحايا التعذيب، باعتباره يوما لتفعيل اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي بدأت بالتنفيذ الفعلي بتاريخ 26 حزيران عام 1987م . والتي عرفت التعذيب في مادتها الأولى على أنه "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد - جسدياً كان أم عقلياً - يُلحق عمداً بشخص ما، بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات، أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه، أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث، أو تخويفه، أو إرغامه، هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب، لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يحرض عليه، أو يوافق عليه، أو يسكت عنه موظف رسمي، أو أي شخص آخر، يتصرف بصفته الرسمية؛ ولا يتضمن ذلك الألمَ أو العذابَ الناشئ فقط عن عقوبات قانونية، أو الملازم لهذه العقوبة، أو الذي يكون نتيجة عرضية لها".
بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق
في هيئة شؤون الأسرى والمحررين