للمرة الثانية خلال شهرين تقدم بريطانيا نموذجاً لثقافة تصيب المتابعين العرب بدهشة الواقع العربي الغارق في الأداء القديم الذي لا يشبه الدول ولا نظمها الحضارية، ولم يعد يصلح مع كل هذا التطور الذي شهدته البشرية صعوداً في كل شيء فيما ظلت المجتمعات العربية تقف عند حدود العشيرة مرتبكة في كل شيء تعيش حالة اغتراب بين حداثة هي نتاج تقدم العلم وصراعات البشر وبين عقل صحراوي أنتج ما يكفي من قيم البداوة، بين دول تحاول أن تبني هياكلها وفقاً لأنظمة الإدارة الحديثة من انتخابات وقانون وبين تسيّد الوعي القبلي الذي يحكم هذه الدول.
لم يكن ما يحدث من انهيارات لهذه الدول سوى نتاج هذا الإرث المضطرب والصراع بين القديم والجديد، بين العلوم والمؤسسات وما يتم استيراده من سيارات وآلات حديثة وبين ثقافة العشيرة التي تحكم حين يصبح أي حزب حاكم وريثاً لقيمها ويحكم بوعيها ويمارس سلوكها.
صدمتنا بريطانيا وهي تنتخب المسلم صديق خان رئيساً لبلدية لندن لأنها تجاوزت في ثقافتها العنصرية الدينية فلم تعد ديانة الفرد مقياس للحكم على المواطنة، وهذا يبدو صادماً في منطقة يستعر فيها الصراع المذهبي بين أبناء الدين الواحد وتحدد مواطنة الفرد وفقاً لديانة النظام الحاكم وبالتالي حقوقه وواجباته حيث تردّى مكانة المواطن الشيعي في بلاد الحكم السني وكذلك الدونية التي يعيشها السنة في بلاد الحكم الشيعي.
مرة أخرى تصدمنا بريطانيا التي شهدت انقساماً حول عضويتها في الاتحاد الأوروبي لتحل هذا الانقسام الكبير بلا عنف ولا سلاح ولا انقلاب ولا اتهامات ولا حوارات مصالحة عبثية.
ببساطة شديدة العودة للشعب وصندوق الاقتراع هو الذي يحدد وقد بلغت الدهشة ذروتها أكثر لدى الفلسطينيين الذين سقطوا في بئر الانقسام ولم يعودوا يعرفون ما هو المخرج، حيث العودة للشعب صاحب الصلاحيات هي المخرج الوحيد ولأننا جزء من منتج عقل الصحراء لم نؤمن بعد بتلك الثقافة التي تحترم الشعوب.
وقبلها صدمتنا ألمانيا وقرارات المستشارة أنجيلا ميركل بفتح بلادها أمام المهاجرين السوريين وتقديم الخدمات ودعوة العائلات الألمانية لاحتضان العائلات المشردة. وبلغت قسوة المقارنة بين ألمانيا ودول الخليج بالنسبة لاستيعاب اللاجئين حداً موجعاً.
وقبلها صدمتنا أوروبا بالكثير من الأحداث التي أثارت اندهاشنا من وزير يقدم استقالته بسبب تعرض مواطن للظلم ورئيس وزراء يذهب لعمله على دراجة نارية، وتستعر المقارنات مع مواكب الفشلة في الدول العربية وغيرها كثير من الأحداث التي عكست ثقافة هي بالقطع أرقى كثيراً من ثقافة بدائية عششت في المنطقة العربية وتحولت إلى سلوك يومي يعبر عن نفسه بتفاصيل من القمع والاستبداد والخوف واحتقار إرادة الشعوب وتقديس شيخ العشيرة وإطلاق مسميات العصور القديمة بوصفه بـ "الأب القائد" و"الزعيم التاريخي " وغير ذلك من المسميات.
بالتأكيد، كل تلك المقارنات تنال يومياً من الثقافة الحاكمة لدينا من الحكام ومن القوى الفاعلة في المجتمع ومن الحكم البدائي وهو حكم وليد لم يراكم تجربته بعد أن أعاد إنتاج الثقافة العربية في محاولته الأولى في بناء المؤسسة، لكنه سيء الحظ لأنه لم يعد يحتكر المعلومة في عصر الفضاء المعلوماتي والشبكة العنكبوتية التي تمسه يومياً من خلال نقل أحداث في دول كشفت أن أداءه في الحكم أقل من إدارة روضة أطفال.
قبل عقود، كان النظام العربي الرسمي يسيطر على البث الإعلامي من خلال القنوات الرسمية للتليفزيون التي لم تكن تسمح بعرض سوى دعاية الحزب الحاكم وتغيب المعارضة وتحجب ما يحدث في العالم الحضاري، هذا على مستوى الأنظمة الوطنية، أما الإسلاميون فقد احتكروا مخاطبة الناس من خلال منابر المساجد لكن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة كسرت احتكار التليفزيون والمسجد وأصبح انفتاح المواطن على العالم الخارجي مادة يومية للسخرية من أداء الحكم سواء في الضفة وحكم فتح أو في غزة وحكم حركة حماس.
لكن المسألة ليست بتلك البساطة فالسياقات التاريخية هي التي تحدد أين تقف الدول ومستواها الثقافي والحضاري. سياقات كان للدم والحروب والصناعات الدور الرئيس في تصنيفها فمن الطبيعي أن يعود الحكم البريطاني للشعب لتقرير مصيره، هذه هي ثقافتهم ومن الطبيعي أن يقدم رئيس الوزراء هناك استقالته فهي منظومة متكاملة جسدها التاريخ الطويل. فالدولة التي كان لها برلمان عريق في بداية القرن الثالث عشر وتمكن قبل ثمانمائة عام من تحجيم الملك "الأب القائد" وانتزاع صلاحيات للبرلمان من خلال وثيقة "الماجنا كارتا" من الطبيعي أن يكون الشعب بهذا المستوى من القوة وأيضاً ممثليه.
وما بين برلمان بتلك القوة قبل ثمانية عقود وبرلمانات عربية الآن أشبه بديكورات حكم بعد كل هذا الزمن الطويل يتجلى الفارق في كل شيء وصولاً إلى ما نحن فيه. وما بعد الماجنا كارتا كانت مياه كثيرة تجري في أنهار أوروبا التي ينسب لها اختراع كل شيء بما فيها أنظمة الحكم الحديثة وكل المفاهيم المصاحبة لها كالديمقراطية وحقوق الفرد والمساواة والعدالة الاجتماعية وغير ذلك.
أوروبا كانت تحكمها الكنسية والدين وكان حالها يشبه حال المنطقة العربية من حكم متخلف وصراعات دينية. كانت تشبهنا تماماً قبل قرون، ولكن حدثت هناك تطورات هائلة مهدت لما هي عليه وغيرت مجرى التاريخ ليس الأوروبي فحسب بل والعالمي أيضاً، إذ شكلت الثورة الصناعية انقلاباً هائلاً العلاقات البينية وفي نمط المجتمعات وانتقالها من حالة الريف إلى الحالة الصناعية وتشكل المدن ثم التطور الأهم وهو الثورة العلمانية والتي وضعت الكنيسة والدين في مكانهما الطبيعي ففصلتهما عن السياسة وليس عن المجتمع كما يقول معادو العلمانية والحداثة وهنا كانت بداية العدالة والمساواة واحترام البشر.
كيف يمكن أن تكون مساواة في عصر الكنيسة حين يعتقد المتدين أنه يحمل وكالة من الله وهو مخول بحكم البشر، وحين يعتقد أن لديه وصاية وأن هدفه في الحكم أن يجعلهم مثله معتقداً أنه بلغ حداً من الكمال وأن الناس طالما ليست مثله مصابة بالنقصان.
لا زالت المنطقة العربية محكومة بثقافة العشيرة والدين وحين تحدث التطورات والثورات التي حدثت هناك بالتأكيد سنكون مثلهم أما نحن فلا نزال بعيدين وما زلنا في مرحلة الصراع الديني التي عاشتها أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك مثل صراعنا الحالي بين السنة والشيعة. لذا علينا أن نتوقف عن المقارنة فلا الصناعة جزء من بنية المدن العربية ولا الشيوخ عادوا إلى مساجدهم بعيداً عن السياسة وحين يحدث ذلك سنرى رئيس وزراء يحترم شعبه ويقدم استقالته وسنرى شعوباً لها بعض الكرامة..!!!
أكرم عطا الله
2016-06-26