أثارت سلسلة حلقات "ما العمل" التي ينظّمها مركز "مسارات"، تحديدًا الحلقة الخامسة التي تحدّث فيها القيادي في حركة "فتح" ناصر القدوة، ردود فعل واسعة ومتباينة، تراوحت ما بين مؤيد ومعارض لما طرحه.
وقد ساهمت هذه السلسلة في توفير منبر للحوار حول قضايا محورية منسيّة، وطرحت أسئلة من قبيل: هل الخلل في البرنامج الذي اعتُمد منذ إقرار "النقاط العشر" في العام 1974، وصولًا إلى الكارثة التي نعيشها، أم في الطريق الذي اعتُمد لتحقيقه؟
سأحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على النقطة تلك، لأنّ الآراء تباينت حولها بشدة، بين مَن قال إن طرح هذا البرنامج هو أساس الداء الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، وبين مَن أشاد به لكونه وضع فلسطين على خريطة المنطقة، ولو لم يُطرح لشُطبت القضية الفلسطينية كليًا.
لا يمكن تقييم صحة أو خطأ اعتماد برنامج الدولة الفلسطينية على جزء من فلسطين، تحديدًا على الأراضي المحتلة العام 1967 إلّا بالعودة إلى الظروف التي اعتُمد فيها برنامج "النقاط العشر"، الذي نصّ على "إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي شبر يتم تحريره"، والذي أصبح فيما بعد برنامج الدولة الفلسطينية.
فقد اعتُمد هذا البرنامج بعد حرب تشرين 1973 وإثر انطلاق قطار التسوية الذي كان يُعتَقَدُ أنه جارف، وأن مَن لا يلتحق به سيخسر كل شيء. وكانت معارضة هذا التيار صعبة جدًا، لأنه اعتمد من نظامَي مصر وسوريا بتأييد عربي شامل ومن الحليف السوفياتي، على أساس قناعة مفادها أن نتائج حرب تشرين كافية للتوصل إلى اتفاق سلام يتضمّن إزالة آثار العدوان. وما ساهم أيضًا في اعتماد هذا البرنامج كان بدء تحركات دولية، أبرزها عقد مؤتمر جنيف سنة 1973، وازدياد حدة التنافس بين "منظمة التحرير" والنظام الأردني على تمثيل الفلسطينيين.
ليس الخطأ في اعتماد هذا البرنامج، إنما في تصور أن المعطيات التي ظهرت بعد حرب تشرين تُمكّن من التوصل إليه من خلال حل تفاوضي، ومن دون إجراء تعديل في موازين القوى. وحين اصطدمت الجهود السلمية بهذه الحقيقة، قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارته التاريخية المشؤومة إلى القدس التي انتهت بتوقيع صلح مصري منفرد مع إسرائيل، خرجت منه مصر من معادلة الصراع، وتركت الأطراف العربية الأخرى، وخصوصًا الفلسطينيين، فريسة سهلة لإسرائيل التي قامت بعيد توقيع معاهدة السلام مع مصر بغزو لبنان وطرد "منظمة التحرير" منه.
ومن الخطأ الفادح أيضاً أن يشكل اعتماد هذا البرنامج ـ كما حصل فعلًا ـ مقدمة للتخلي عن خطاب الحقوق الوطنية التاريخية، إذ أصبح بديلًا عنه وليس مرحلة على طريق تحقيقه.
والخطأ نفسه تكرّر بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى، حين ساد وهم بين الأوساط القيادية الفلسطينية بأن ما حققته الانتفاضة كفيل بإنجاز برنامج الدولة. وعندما لم يتحقق ذلك وحدثت تطورات عربية ودولية معاكسة، أبرزها انهيار التضامن العربي بعد احتلال العراق للكويت، وانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، وسيطرة القطب الأميركي على العالم بصورة أحادية، قفزت القيادة الفلسطينية بدلًا من العودة إلى الوراء والتمسك بالحقوق قفزة أخرى في المجهول بتوقيع "اتفاق أوسلو"، متصوّرة بذلك أنها عن طريق تقديم التنازلات الفادحة تستطيع حماية رأسها انتظارًا لتغير الظروف، علماً أنها تغيّرت للأسوأ، ما أدّى إلى استمرار تقديم مسلسل التنازلات.
إن التخلّي عن خيار الدولة الفلسطينية الآن في ظل ما وصلنا إليه، وبعدما قتلته إسرائيل، أو التخلي عنه عمليًا وليس رسميًا فقط، لا يفتح طريق تحرير فلسطين وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الواحدة، بل يُعفي إسرائيل من المسؤولية عن جريمتها، ويمكن أن يساهم في تصفية القضية الفلسطينية بصورة أسوأ وأسرع مما حدث. فالسياسة هي فن تحقيق أفضل الممكنات في كل مرحلة، وليست فن الممكن بالمطلق.
فالتدرج في تحقيق الأهداف الوطنية التاريخية يفرضه الاختلال الفادح في ميزان القوى، من دون التخلي عن الرواية التاريخية والحقوق الوطنية والطبيعية والأهداف البعيدة والطموح المشروع بحل تاريخي ديموقراطي عادل.
لم يكن الخيار سابقًا ولا هو الآن بين الحصول على كل شيء أو لا شيء، بل الكفاح لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، من دون اعتباره الهدف النهائي، ومن دون الانغلاق على خيار واحد، بل الاستعداد دائمًا لجمع الخيارات وفتحها، لأن عدم ربط الممكن بالمطلوب تحقيقه أدّى إلى تغيير طابع الصراع من صراع شعب تعرّض للاقتلاع وتصفية حقوقه مع مشروع استعماري استيطاني، إلى نزاع بين حركة وطنية (أو دولة ورقية) ودولة إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية بجانبها، وبالتالي نسيان طابع القضية الفلسطينية الأساسي باعتبارها قضية تحرر وطني وتقرير مصير وعودة اللاجئين.
وفي هذا السياق، كان البرنامج المعتمَد في "منظمة التحرير" قائم على ثلاث ركائز تتضمّن: حق تقرير المصير بما يشمل إقامة الدولة على حدود 1967، وحق العودة والتعويض، والمطالبة بالمساواة الفردية والقومية لشعبنا في أراضي 48، لكنه انتهى بعد مسلسل التنازلات إلى إقامة دولة ضمن أراضي 67.
لقد قُزّمت القضية بتحويلها إلى قضية إقامة دولة أو إثبات الجدارة وإقامة مؤسسات دولة تحت الاحتلال كطريق لإنهاء الاحتلال، وتم بذلك الفصل ما بين القضية والشعب والأرض، ودخلنا في متاهة نعرف كيف دخلناها ولا نعرف كيف نخرج منها حتى الآن.
الآن، وبعد 42 عامًا على طرح برنامج "النقاط العشر" و28 عامًا على "مبادرة السلام الفلسطينية" و23 عامًا على "اتفاق أوسلو"، وفي ظل الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية كعضو مراقب، وبعدما أصبحت الأوضاع أسوأ فلسطينيًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا (باستثناء الرأي العام الدولي المؤيد للقضية الفلسطينية وبعض التأثيرات على القرار الدولي والاستعدادات الكفاحية العالية لدى الشعب الفلسطيني)، بعد كل ما سبق، لا يكون الخلاص بإطلاق رصاصة الرحمة على برنامج الدولة الفلسطينية وطرح برنامج الدولة الواحدة بدلًا منه. فهذا سيُسهّل شطب القضية الفلسطينية ومَن يجسّدها، لأن البديل عن الدولة الفلسطينية الآن ليست الدولة الواحدة، بل إقامة "إسرائيل الكبرى"، وإقامة حكم ذاتي دائم للفلسطينيين يكون رهينة لإسرائيل وتحت رحمتها، يُسجَنُ فيه الفلسطينيون في معازل مقطعة الأوصال يمكن أن تسمّى أو لا تسمّى "دولة"، وترتبط أو لا ترتبط مع مصر والأردن، وتكون في إطار سياسي واحد أو عبر سلطتين متنازعتين تسيران بسرعة نحو انفصال دائم.
لا يمكن بعد وصولنا إلى قعر البئر تصوّر أننا سنصعد منه بقفزة واحدة، فمن أبسط الأشياء التي يُفترض أننا تعلمناها بعد الأثمان والتضحيات الغالية، أن تغيير الواقع السيئ يبدأ بالاعتراف به والتعامل معه، ليس من أجل التعايش معه وتكريسه، إنما من أجل تغييره. وهذا بحاجة إلى فترة انتقالية يعيد فيها الشعب الفلسطيني الاعتبار إلى قضيته التحررية، ويجدّد مشروعه الوطني، كما يعيد بناء مؤسساته الجامعة على أسس جديدة تأخذ بالاعتبار الظروف والخصائص المتنوعة للتجمعات المختلفة.
إن الكفاح من أجل إنهاء الاحتلال وحق العودة والمساواة عبر العمل من أجل تغيير موازين القوى والتخلّي عن أوهام الحل التفاوضي بلا قوة، لا يفترض حتمًا تقديم التنازلات مثل الاعتراف بإسرائيل، وإدانة "الإرهاب" ونبذه، والقبول بالتبعية، إنما يأخذ ما حدث في لبنان لجهة دحر القوات الإسرائيلية المحتلة تحت ضربات المقاومة من دون قيد أو شرط نموذجًا قابلاً للتكرار، وكذلك يستلهم تجربة "الانسحاب" من قطاع غزة، برغم أنها جاءت ضمن ملابسات معينة لا مجال للخوض فيها هنا.
لقد أدى الانغلاق على خيار الدولة الفلسطينية وإغلاق الخيارات الأخرى، ورمي أوراق القوة، والانسياق وراء وهم الحل التفاوضي الذي قُدِّم بصفته رهاناً على الممكن، والتخلي عن الأهداف النهائية، إلى مسلسل التنازلات التي أوصلتنا إلى الكارثة. فعندما تبين أن إسرائيل لا يمكن أن توافق على عودة اللاجئين، تمّ التخلي عمليًا عن حق العودة من خلال إبداء الاستعداد للمساومة عليه مقابل التفاوض على الدولة. وعندما لم ينفع ذلك في تليين أو تغيير الموقف الإسرائيلي، انتقل المفاوض الفلسطيني إلى الموافقة على تقاسم الضفة الغربية والقدس من خلال قبول مبدأ "تبادل الأراضي" وضمّ "الكتل الاستيطانية"، بما فيها المقامة في القدس الشرقية المحتلة، وانتهينا برغم كل هذه التنازلات من دون تحقيق أي شيء، بل أصبحت إسرائيل أكثر تطرّفًا وعادت إلى تبنّي "خطة إسرائيل الكبرى"، وهذا يفتح طريق التهجير والتصفية، لا طريق الدولة الفلسطينية ولا طريق "الدولة الواحدة".
بقلم: هاني المصري