أدى الانقسام إلى جعل القضية الفلسطينية برمتها ورقة بيد الأطراف الخارجية، لتخرج من سياق مقتضيات المصلحة الوطنية، ولتدخل ضمن استحقاقات الأجندات السياسية المتعددة الإقليمية والدولية.
ففي الماضي القريب، والذي يذكرنا بما كان واقعاً في النصف الأول من القرن العشرين عندما كانت الزعامات الفلسطينية على اختلاف توجهاتها على علاقات وطيدة بالفئات الحاكمة في الوطن العربي، وقد اقتسمت ولاءاتها دمشق وعمان وبغداد والرياض، وكان الحسينيون مع فيصل ضد عبد الله أخيه، وموالين لبغداد والرياض، بينما كان النشاشيبيون مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالأمير عبد الله بن الحسين، أمير إمارة شرق الأردن.
وفي وقتنا الراهن لم يسلم الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس من تدخلات وتأثيرات خارجية تعمقه وتطيل أمده، ففتح الباب أمام التدخلات الدولية والإقليمية في القضية الفلسطينية، سواء من الولايات المتحدة الأمريكية أو الأوربيين أو إسرائيل أو الأطراف الإقليمية، التي ترفع شعارات الممانعة، والأخرى التي تسمى بالاعتدال، وتماشى الجناح الذي تمثله حركة فتح مع سياسات ومصالح أصدقائها من الأنظمة العربية (دول الاعتدال)، بينما سار الجناح الذي تمثله حركة حماس في فلك بعض الدول التي توصف (بالراديكالية)، وكأن أحداً لم يتعلم الدرس! فوقعنا في الفخ، ولم نتعلم من التاريخ الزاخر بالمواعظ والعبر عن الزمن الضائع بالخبث والمؤامرات الدولية.
ففي ميدان السياسة لا تثمر العواطف والنوايا الحسنة، ولا حتى قصة العصفور والصياد، عندما أنشد العصفور قائلاً: (لكَ عند اللهِ أجرُ الخيرِ إنْ تُطلقْ أَسيرا)، ولكنها المصلحة هي التي تسوق الدول وتهدي سياستها الخارجية، على قاعدة تبادل المصالح. وفلسطين خير شاهد حي على ذلك وانطبق علينا قول الشاعر الجزائري "محمد السعيد الزاهري":
وإن يسلب الإفرنج في الشرق عزّنا فكم مسلم خلّى الطريق ومهّــــــدا
ولـولا حمـاة الـشــرق خانـــوا بعــــــهـــــده لما ملـك الإفــرنج للشرق مقــــــودا
لكل ما تقدم ذكره، فإنه يحتم علينا جميعاً، أن نأخذ العبر من الماضي، لنعزز الحاضر بإيجابيات قوية، تؤسس لمستقبل مشرق من العمل الوطني في ظل وحدة وطنية ترسم آفاق هذا المستقبل على قاعدة أن الوطن للجميع. لذا، فجدير بالفلسطينيين اليوم، مراجعة الحالة الانقسامية بين حركتي فتح وحماس، وأن ينفضوا عن كاهلهم أعباء الانقسام، ويبنوا وطنهم سوياً من خلال وحدتهم الوطنية التي بات من الضروري العمل على استعادتها، وطي صفحة الانقسام التي تساعد على تحقيق كل مشاريع الهيمنة والاستيطان والتهويد، وطمس الهوية الوطنية، وسلخ الشعب عن تاريخه وجغرافيته وعقيدته، خدمة للمشروع الصهيوني النقيض التاريخي للمشروع الوطني الفلسطيني.
ولعلَّ من أهم ركائز هذه المراجعة للتاريخ، إعادة قراءته بأفق أوسع، وأن يؤمن الكل أن انقساماتنا لم تجرْ علينا إلا الوبال والخسارة الكبيرة، وهل هناك أعظم من خسارة وطن؟ ففي ظل الانقسام بين حركتي فتح وحماس ليس هناك منتصر ومنهزم أو فائز، إنما الخاسر الأكبر هو الوطن، الوطن بكل مقوماته، بأرضه وشعبه، بتراثه ومقدساته، بثقافته وتاريخه، ببحره وبره، بجباله وسهوله وأوديته.
ولا بدَّ أن يتجه الجميع اليوم إلى تحرير الإرادة الوطنية، والبحث بين الفرقاء عن القواسم المشتركة التي لا تغيب عن أحد، ولسنا في حاجة إلى مزيد من الجهد للبحث عنها؛ فهي واضحة كالشمس، إلى جانب وجوب معالجة أوجه الاختلاف بالحوار الهادئ، والنقد الذاتي البناء، بعيداً عن أجواء التوتر وعنترية العشيرة والقبيلة، حتى تتحول تلك الأشكال المكونة للمجتمع إلى رافعة قوية تساهم في خلق مستقبل أفضل للأجيال يتحقق بهذه الروح الجديدة، وفي زمن قياسي، وهو ما فشلت في تحقيقه عبر كل السنوات التي مضت، وفي ظل هذا المناخ، نأمل أن يؤمن كلٌ منا بقبول الآخر، وعلى مبدأ المشاركة الصادقة في بناء الوطن، لا على إقصاء الآخر، فالوطن في حاجة لجهد الجميع، ودم الجميع، لأنه سقف الجميع، تحته ملاذهم الآمن.
بقلم/ نعمان فيصل