تمتاز الحضارة المصرية بأنها تختصر أزمنة عديدة وثقافات بعيدة جعلت مصر إيقونة ومهوىً لقلوب الزائرين، إضافة لطبيعة الإنسان المصري المبدع بقدراته العالية التي أسست هذه الحضارة المادية والمعنوية والأدبية. فقد ساهمت الثقافة المصرية في صياغة جانب كبير من وعي ووجدان الشعوب العربية عبر إعلامها في الأدب والتاريخ الثقافة وعبر رموزها الأدبية وكتابها ومفكريها ونوابغها في العلوم الإنسانية والطبيعية.
حتى الغزاة في غابر الأزمان أحبوها وذابت شخصياتهم فيها وأعطتهم من رونقها ومسحتها الحضارية شيئاً كثيراً على طريقة ونمط حياتهم، فما بالكم بإخوة الجوار و اللغة والتاريخ والدين والمصير المشترك؟ فما بالكم بجيران مصر الذين يلهج لسانهم بشكر مصر في سرائهم وضرائهم؟ فما بالكم بمن يعتبرها بجامعاتها العريقة و أزهرها قبلة لطلاب العلم والمعرفة؟ إنها من الحقائق الراسخة أن مصر لها جاذبية خاصة نعجز عن تفسيرها ولكن نذوب حباً فيها وشوقاً لها -وخاصة سكان قطاع غزة الذين منهم من يقدم حبه لمصر على حبه لفلسطين-، إنها أيضا عبقرية المكان التي ألقت بظلاله على شخصية مصر وموقعها الجيوستراتيجي الفريد الذي تحدث عنه الكاتب العظيم جمال حمدان.
لا أمن قومي عربي بدون مصر
إن أي عربي وتحديداً فلسطيني على قناعة تامة بان قوة مصر تعني قوة العرب، فقد ظلت جيوش التتار تعيث فساداً وقتلاً في شعوب المنطقة حتى وضعت مصر حداً لها، وأهدت انتصارها للجميع. وقد ذكر "دافييد بن جوريون" مؤسس دولة "إسرائيل" في 29 مايو 1949 في اجتماع مجلس الوزراء (إن مصر هي الدولة الوحيدة من بين البلاد العربية التي تشكل دولة حقيقية...). وستظل حقيقة راسخة أمام مؤامرات تفتيتها أو النيل منها، فيجب أن تظل مصر دولة قوية، فلا يوجد أمن قومي عربي بدون مصر القوية المنيعة العصية على الانكسار، وخاصة بعد أن عصفت المتغيرات الإقليمية بجيش العراق منذ عام 2003 وأصبح غير قادر على جلب الأمن والاستقرار لشعبه وسيطرت عليه الجماعات المتشددة والمليشيات، وبعد أن عصفت الأزمة السورية منذ 2011 بالدولة السورية وجيشها الذي تراجع واستنزف مع الجبهات الداخلية والخارجية، وأيضا بعد سيطرة الصراع المذهبي الطائفي على العديد من الدول المحيطة وتأثر لبنان بهذا الصراع. وتظل مصر هي الدولة الوحيدة المتبقية للذود عن حياض الأمن القومي العربي وقدرتها على حل الأزمات التي تخص النظام الإقليمي العربي برمته.
إن الدور المصري يجب أن يكون دوماً في الطليعة وله الريادة والأسبقية عن غيره من الأدوار، كما أن مكونات القوة الناعمة المصرية تجعل الدور المصري مرغوباً ومفضلاً عن غيره من الأدوار، فقد امتزجت الثقافة المصرية العابرة للحدود جميع مكونات الثقافات العربية المحلية، وصبغت الجميع بهويتها وطبعها وحضارتها الطاغية الحضور، فاللهجة المصرية الأكثر وضوحاً وقبولاً وفهماً، فالنخب الرياضية
والثقافية والفنية المغربية والتونسية عندما تكون أمام كاميرات التصوير تضطر للتحدث بالمصرية لكي يضمن وصول رسالته وحديثه للعالم العربي كله. لان اللهجة المغاربية برغم حضارتها العريقة إلا أنها تعاني من صعوبة توصيل الرسالة لصعوبتها وغموضها.
ارتباط تاريخي لا انفكاك من تبعاته
فعبر التاريخ مصر كانت القوة التي تدفع الأعداء والغزاة عن المنطقة وتنقذ بلاد الشام من الغزاة، فحين تسقط بغداد والشام، تظل الآمال معقودة على مصر، الدولة والأمة، والدور التاريخي في الحفاظ على موارد ومقدرات الأمة العربية. وتظل معارك مصر مع إسرائيل، أي حروب: 1948، 1956، 1967، 1973، وما تلاها من حرب استنزاف، شارك بقوة فيها الفلسطينيون، خير شاهد خلال القرن الماضي، على أن مصر وإن كانت تدافع عن نفسها فهي تدافع عن محيطها العربي وبُعدها القومي، بما فيه القضية الفلسطينية، حيث بات معروفاً أخطار الحركة الصهيونية وأهدافها في المنطقة وأطماعها في الموارد العربية التي تقع في كثير من الدول العربية المجاورة والإفريقية، ومحاولة إسرائيل المستمرة و الحثيثة في التأثير على مصر من خلال ملف سد النهضة، وتقليص حصة مصر في المياه، وتطويق حلفاء مصر التاريخيين التقليديين وتحويلهم لأعداء، وتأتي زيارة نتانياهو الأخيرة لزعماء إفريقيا بتاريخ 4/7/2016 في نفس السياق ولإتمام عقود مشتركة بين إسرائيل ودول حوض النيل.
وهكذا ومنذ التاريخ ارتبطت التطورات السياسية في فلسطين صعوداً وهبوطاً بقوة مصر، وقد تبدو هذه العلاقة أكثر إلحاحاً بالنسبة لهذا الجزء الصغير من فلسطين وأقصد قطاع غزه والذي قد ارتبط ارتباطاً سياسياً وأمنياً وجغرافياً واجتماعياً بمصر، ولا يمكن تصور أي شكل من أشكال الكيانية السياسية في غزة دون أن تكون حاضنته وعمقه السياسي والأمني مصر، وفي هذا السياق لا يمكن أن تقارن العلاقة بمصر بأي علاقة مع أي دولة أخرى وذلك لأمرين مهمين إضافيين:
الأول: وهو العمق والدور الحاضن الذي يوفر الهوية الذاتية لهذا الجزء من فلسطين وهو ما عملت وحرصت مصر عليه طوال إدارتها لقطاع غزه منذ العام 1956.
الثاني: إن مصر تشكل الحاضنة الآمنة والحامية لقطاع غزة، لأن البديل الآخر وهو إسرائيل يعني امتصاص واحتواء هذا الجزء في كيان أوسع وأشمل يفقده هويته واستقلاله السياسي والاقتصادي وحتى الأمني.
التطلعات الفلسطينية نحو طي صفحة الانقسام
إن الشعب الفلسطيني يتطلع لدور مصري ينهي بعضاً من فصول معاناته المتزايدة بفعل الاحتلال وممارساته وبفعل الحصار المفروض على أكثر من 2 مليون فلسطيني في غزة. فمصر تحملت مسؤولية كبيرة ضمن الصراع العربي الإسرائيلي ومراحله المتعددة، فقد لعبت مصر دوراً تاريخياً كبيراً
في الحفاظ على قومية القضية الفلسطينية، وقد ارتبط البلدان بعلاقات تاريخية راسخة ووطيدة، ولا أحد يستطيع التشكيك بأهمية ودور مصر في الحفاظ على البعد القومي للقضية الفلسطينية.
وختاماً، تظل مصر مدعوة للعب دور اكبر في إتمام عملية المصالحة بين فتح وحماس، والعمل على قطع ادوار إقليمية أخرى، والعمل على تطبيق فوري لاتفاق القاهرة عام 2011، والذي ارتضاه كل من السلطة الفلسطينية وحركة حماس التي تدير قطاع غزة. فليس إلا مصر من يمتلك القدرة الحقيقية على إجبار الأطراف الفلسطينية لطي صفحة الانقسام الفلسطيني البغيض، وتوحيد الفلسطينيين ضمن نظام سياسي ودبلوماسي واحد، و بشرعية واحدة من اجل إعادة القضية الفلسطينية لأعلى سلم الأولويات لدى العالم العربي على الأقل، حيث يظل الشعب المكلوم هو ضحية الانقسام ، ويدفع هذا الشعب الثمن غالياً في ظل استمرار تغليب كل من فتح وحماس مصلحتهما الحزبية على المصلحة الفلسطينية الوطنية العليا.
الكاتب فهمي شراب*
*أكاديمي- كاتب ومحلل سياسي من فلسطين-غـــــــزة