بين زمن النهوض وزمن الانحطاط

بقلم: عماد شقور

 

في زمن الصعود والنهوض الوطني والقومي والانساني يكون "على هذه الارض ما يستحق الحياة". وفي زمن الانحطاط تفقد الحياة معناها وجدواها. فكيف ونحن نعيش زمن "الانحتات" الذي هو زمن انحطاط الانحطاط؟؟.
ابدأ، قبل ان اصل الى ما خصصت هذا المقال لشرحه وتوضيحه، بل ولفضحه، بتسجيل حيثيات ووقائع وحكايا كما عشتها واعرفها بخلفياتها ودقائقها وتفاصيلها، فاقول:
تسلّم الاخ محمد ابو ميزر، (ابو حاتم)، مسؤولية تمثيل حركة فتح في باريس ليكون اول ممثل رسمي معلن للحركة الفلسطينية في فرنسا. وقبل انتقاله الى باريس استدعي من الجزائر الى عمان، حيث تولى الشهيد الكبير صلاح خلف، (ابو اياد)، ابلاغه قرار اللجنة المركزية لفتح، تكليفه بهذه المهمة، والاعلان من هناك، "ان حركة فتح ترى ان انهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، يكون باقامة دولة واحدة من النهر الى البحر، يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود، دون أي تمييز".
في تلك المرحلة من النهوض الوطني، اعتبر كل العقلاء ان موقف فتح هذا ذكي ووطني وانساني، يفضح امام العالم عنصرية اسرائيل، ويظهر الحركة الوطنية الفلسطينية، على انها حركة ثورية عاقلة اصيلة الموقف، وليست حركة عدمية ضيقة الافق.
كان ذلك زمن نهوض وطني فلسطيني. هذا النهوض الفلسطيني قدم للامة العربية قسطا وافرا من الجهود المبذولة لاعادة توازن الشخصية العربية، الى جانب مساهمات لاحقة اخرى، ابرزها المبادرة الى شن حرب الاستنزاف وبعدها حرب اكتوبر 1973، وبدخول النفط العربي في معركة دعم عودة الثقة بالنفس للامة العربية. في هذا الجو الفلسطيني الايجابي، استقبل الاعلان الذكي والانساني عن القبول بالآخر، اليهودي الاسرائيلي، وهو الغريب والمستعمر والمحتل، بترحيب وتشجيع من الشارع الوطني الفلسطيني، وبرفض مطلق من اسرائيل التي رأت فيه هجوما سياسيا ذكيا، لا يهدد استعمارها واحتلالها فقط، بل هو تهديد لوجودها ذاته.
من هذه الحادثة والاحداث، الى قصة اخرى: في عز ايام شموخٍ فلسطيني، في مواجهة حفنة قليلة من المناضلين في الثورة الفلسطينية، وعمودها الفقري ، حركة فتح، لجيش الاحتلال الاسرائيلي، احد اكثر جيوش العالم تطورا، ومن الجيوش العشرة الاقوى في العالم، اثناء اجتياح لبنان، وحصار العاصمة بيروت، في صيف العام 1982، التقينا: الراحل الكبير الصديق محمود درويش، والمرحوم محمود اللبدي وانا، بمعية الزعيم والرمز الفلسطيني الاكبر ابو عمار، في بيتي في بيروت، مع الصحافي الاسرائيلي المعروف، الصديق اوري افنيري، صاحب ورئيس تحرير مجلة "هعولام هزيه"، ومرافقتيه الصحافيتين الاسرائيليتان عنات سراغوستي وسريت يشاي. واعتبرت الصحافة العربية والاسرائيلية والدولية هذا اللقاء نجاحا فلسطينيا كبيرا في اختراق الجبهة الاسرائيلية الداخلية، رغم كل قسوة الحكومة الاسرائيلية في مواجهة أي تواصل فلسطيني اسرائيلي، في غير ساحة القتال.
سردت هاتين القصتين من زمن النهوض الوطني الفلسطيني، لاقارنهما بقصتين من زمن الانحطاط الفلسطيني الذي نعيشه هذه الايام. اولاهما قصة ما يتعرض له صديقي المناضل الصادق محمد المدني من هجوم وتشكيك وتنديد وادانة لما يقوم به من نضال متواصل دؤوب، يهدف الى اختراق حواجز اليمين العنصري الاسرائيلي التي لا تقبل التواصل الفلسطيني الاسرائيلي، الا في المعتقلات وحواجز الاهانة للفلسطينيين على حدود الضفة الغربية وقطاع غزة، وداخل وبين مدن الضفة وقراها ومخيماتها. محمد المدني، مسؤول "لجنة التواصل مع المجتمع الاسرائيلي"، كان اول مستهدف بواحد من اول قرارات افيغدور ليبرمان كوزير للدفاع في حكومة نتنياهو اليمينية العنصرية، حيث اصدر الامر لجيش الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي، لمنع دخوله اسرائيل، لأن "تواصله" مع المجتمع المدني الاسرائيلي، يشكل خطرا على "الجمهور". رغم ذلك فان الاداء الفلسطيني السياسي والاعلامي الركيك، لم يعرف كيف يستفيد من هذه السقطة الاسرائيلية. والمؤلم هو ان اصواتا اعلامية اسرائيلية شريفة وعادلة، كانت اكثر واوضح انتصارا للمدني، واكثر فضحا وادانة لفعلة ليبرمان ضد ما يقوله المدني ويسعى اليه، من اصوات اللجنة المركزية لحركته رغم انه واحد من انشط اعضائها ومن اكثرهم عطاء.
اما القصة المشينة الثانية فلها علاقة بالمناضل الصديق منير عبوشي، وعدد من اصدقائه ومعارفه، الذين بادروا بالدعوة منذ بضع سنوات، الى "دولة واحدة من النهر الى البحر" مع نظامي حكم مستقلين، ومعالجات واقتراحات بخصوص الحدود والسيادة وقضايا اخرى. قد نختلف مع هذا التوجه او مع بعض من تفاصيله، ولكنه اجتهاد مشروع، بل ومبارك، في محاولة للخروج مما نحن فيه من هوان ويأس وانعدام الامل بمستقبل معقول. منير عبوشي وعدد من اصدقائه دعوا لحفلة افطار في احد ايام رمضان قبل نحو اسبوعين، عددا من الاسرائيليين الذي يوافقونهم نفس التوجه السياسي، وبينهم شخصيات اسرائيلية معروفة، وبعض قامات اسرائيلية سياسية واعلامية ذات وزن في المجتمع الاسرائيلي. كان مكان اللقاء والافطار هو مكتب العبوشي ومن معه في رام الله، وكان بين المدعوين الصحافي الاسرائيلي ربوبارت، المعروف، من خلال كتاباته، بمناصرة الحقوق الفلسطينية. اثناء الافطار فوجئ الداعون والمدعوون بسماع اصوات رجم بالحجارة لسيارات متوقفة على الرصيف خارج المكتب، واذ خرجوا لمعرفة ما يحصل رأوا سيارة الصحافي الاسرائيلي المتضامن مع الفلسطينيين، وقد تعرضت للرجم بالحجارة، وكذلك "لمحاولة" احراقها.
المشين في هذه القصة موزع على ثلاثة اوجه ومستويات:
ـ صحيح ان من من تعرضت سيارته ووجوده للاعتداء اسرائيلي، ولكن هذا الاسرائيلي صديق ومناصر لحقوق شعبنا، وتعبيرا عن ذلك كان في زيارة تشير الى تضامنه مع شعبنا.
ـ هذا المعتدي كان مخطئا في اختيار الهدف الذي يهاجمه. لكن المؤسف والمشين والمخجل اكثر من الخطأ، انه انسان فاشل حتى في احراق سيارة متوقفة في شارع هادئ لا مارّة فيه.
ـ لم تعثر قوات الامن الفلسطينية حتى الآن على هذا "المناضل المخطئ والفاشل".
ـ لم نسمع بوضوح كلمة القيادة الفلسطينية التي يفترض ان يكون دورها هو توجيه النضال ضد الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي، الى وجهته الصحيحة، واختيار من لا يفشل حتى في حرق سيارة متوقفة. هذه القيادة السياسية والاعلامية الفلسطينية، فشلت حتى الآن في ان تشرح وتوضح لشعبها ولقواه الحية الفاعلة، ان في اسرائيل، مثل غيرها، مجتمعا غير متجانس تماما، وان الستة ملايين يهودي في اسرائيل ليسوا جميعا "صورة طبق الاصل" لنتنياهو وامثاله من عتاة العنصريين الاسرائيليين.

عماد شقور

كاتب فلسطيني