ما أن تفقد جوقة الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" قدرتها على إقناع الشعب الفلسطيني بصلاحيته للبقاء على رأس النظام السياسي الفلسطيني، حتى تخرج حاشية "خالد مشعل" للتنظير عن أهمية الرجل داخل حركة حماس وعن ضرورة الإستفادة من علاقاته الإقليمية، وتحاول ابتداع مناصب شرفية أو فعلية له، للتحايل على لوائح حركة حماس التنظيمية، وتعيد إنتاج نفس القيادة ونفس الأداء الكارثي الذي أفقد حركة حماس الكثير من جمهورها وهيبتها، وجعلها حركة مطواعة في أيدي قوى إقليمية مثل "تركيا" و"قطر"، ومتعارضة مع المصالح الوطنية الفلسطينية والقومية للشعوب العربية.
الجوقة والحاشية في أكبر المنظمات السياسية الفلسطينية توافقا على قضايا غاية في الخطورة إن حصلت، يرفعان شعارات الحكمة في علاج المسائل الوطنية والتنظيمية مجبولة بشلال سمّ سيواصل تدفقه في جسد كل الشعب الفلسطيني إن حصل ما يخططان له، وإن فشلت محاولات التغيير الضرورية التي طال إنتظارها بعد حرمان وإقصاء أجيال وقيادات تمثل تيارات وطنية حقيقية داخل هذه الأحزاب، مرة بقصف واغتيال إسرائيلي وأخرى بإجراءات تعسفية داخلية خارج إطار اللوائح والنظم الداخلية لتلك الأحزاب، بكل تأكيد هناك إتفاقات كثيرة تفصيلية وضمنية لم يجر الإعلان عنها، بإمكان كل مواطن فلسطيني تلمسها، لا يتسع المقال لسرد جميعها، ولكني في هذا المقال أشير إلى أهمها وألخصه في أخطر ثلاث توافقات:
التوافق الأول/ على بقاء خالد مشعل قائداً متنفذاً مقرراً عن حركة حماس، سواء كانت وظيفته رئيساً للمكتب السياسي أو نائباً للرئيس أو أميناً عاماً لحركة حماس، وتطويع اللوائح الداخلية للحركة من أجل خدمة هذا الهدف، ومن أجل أن يستكمل هذا الرجل مشواره الذي بدأه مع تركيا وقطر، وإغفال مسألة محاسبته تنظيمياً وسياسياً عن جملة المغامرات التي ورّط بها حركة حماس، وخرجت منها عاجزة عن تبريرها وأصبحت أكثر ضعفاً وخسارة أمام جمهورها وعدد كبير من كادرها، ولعل اتفاق البيع والتطبيع التركي الإسرائيلي بما يمثله من خطورة على المشروع الوطني الفلسطيني خير شاهد على هذا الضعف، بل خير سبيل يسير عليه دعاة المحاسبة والإصلاح داخل حماس، إن لم تسعفهم في فعل ذلك نتائج ثلاث حروب متتالية على قطاع غزة ووعد الميناء والمطار وفتح معبر رفح الذي لم ير النور، وتخريب العلاقة مع العرب، وغيرها من جرائم سياسية ارتكبها خالد مشعل بحق حركة مقاومة قادها مغامر لتصنع أزمة داخل المجتمع الفلسطيني بدل أن تساهم في تفكيك الأزمات.
تزامناً مع بقاء خالد مشعل مقرراً في حركة حماس، فإن الشق الثاني من التوافق الأول غير المعلن عند الجوقة والحاشية تكفل بقاء محمود عباس رئيساً للسلطة وحركة فتح، رغم إندثار شعبيته الضعيفة أصلاً، ورداءة أدائه على مدار فترة حكمه الحافلة بالإخفاقات والكوارث، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، يسجل على الرجل أنه استدرج حركة حماس للإنتخابات وشهوة الحكم الكامنة بها، وسهل لها مهمة الإنقسام، وصمت عن مفاوضاتها السرية بواسطة قطر وتركيا ومبعوثين دوليين، وساهم في إغراق المجتمع الفلسطيني وعلى وجه الخصوص قطاع غزة بجملة من الأزمات التي لا تنتهي، لصرف النظر عن فشل مشروعه السياسي الذي حاول إنعاشه أكثر من مرة على يد وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" أو خلال اعادة تدوير أفكار "كيري" على شكل مبادرة فرنسية للسلام.
حركة حماس التي فازت في إنتخابات جامعة بيرزيت هذا العام 2016 والعام الذي سبقه، تصمت عن كل هذه الإخفاقات وهي تستطيع أن تهزّ عرش محمود عباس في الضفة الغربية، لو قرر لها "مشعل" أو قُرر لخالد مشعل أن يقرر في الأمر، كما أمر بالإنقلاب عام 2007، فحركة حماس تستطيع أن تنهي كل حقبة إتفاق "أوسلو" لو أرادت فعل ذلك، فلماذا لم تفعل وهي قادرة وترفع شعار الرفض الدائم لأوسلو وما ترتب عن هذا الإتفاق وتعرضت لألوان مختلفة من الملاحقة والتعذيب والإذلال من أجهزة الأمن التي يقودها عباس؟
التوافق الثاني/ ترحيل المصالحة واللعب على المسارات وكسب الوقت، حيث تدرك كل من الجوقة والحاشية أن أهم ما تعنيه المصالحة الفلسطينية ويجب أن تحققه هو الانتخابات، التي من المرجح أن تفضي إلى خارطة سياسية جديدة ورئيس جديد، وتعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني وتفعّل المجلسين الوطني والتشريعي، وتعزز من سلطة القضاء وتلغي مختلف أشكال التفرد والهيمنة والقمع التي مارسها كل من محمود عباس وحركة حماس في مناطق حكمهما، وتعيد إلى الشعب الفلسطيني حقوقه المنهوبة على أيدي عصابتين مسلحتين ارتكبا كل الجرائم السياسية من أجل ممارسة الحكم بأبشع صوره، واستظلا بشعارات وطنية زائفة، وخاضا معارك وهمية كانت نتائجها كارثية، أعادت الشعب الفلسطيني إلى الوراء عشرات السنين، ومكّنت الإحتلال بالمزيد من الأراضي والطرق الإلتفافية، وجعلت من أشكال مقاومته شكلاً موسوماً بالإرهاب، وأفسحت المجال كاملاً أمامه لتحقيق مكاسب أممية على غرار توليه رئاسة اللجنة القانونية في منظمة الأمم المتحدة.
التوافق الثالث/ الإجهاز على كل محاولات الشعب الفلسطيني للوصول إلى مرحلة المواجهة الشاملة مع الإحتلال الإسرائيلي، وهذا ما يفسر تدني مستوى التفاعل الفصائلي مع الإنتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، وغياب الجدية في التعامل مع الجرائم التي ترتكبها إسرائيل والإعدامات اليومية التي تنفذها على حواجزها العسكرية، فلم يعد أحد يأتي على ذكر محكمة جرائم الحرب الدولية ومحاكمة قادة الإحتلال، ولم تعد تُسلم فيديوهات هذه الجرائم إلى المبعوثين الدوليين، وباتت الساحة الدبلوماسية في العالم مفتوحة بلا منافس أمام اللوبي الصهيوني لنسج ما يستطيع نسجه لتضليل المجتمع الدولي، ولم يعد غريباً صدور بعض المواقف الدولية المتواطئة مع الإحتلال على غرار تقرير الرباعية الدولية الأخير، الذي كاد أن يجعل من الشعب الفلسطيني قوة إحتلال تمارس بطشها بحق الشعب الإسرائيلي!
وبمناسبة الحديث عن الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية، راقبت عن قصد، كل التصريحات الرسمية لحركة حماس والناطقين بإسمها، لم أجد نقداً واحداً يعلق عمّا يجري من هزائم دبلوماسية لحقت بالفلسطينيين والفساد المستشري في السفارات الفلسطينية، كما جرت عادة الإتهامات والردح المتبادل مع فتح في مسائل أقل أهمية.
إن التوافق على إخماد حركة الشعب ضد الإحتلال بكل تأكيد له دلالاته، فالطرفان يدركان أن المواجهة الشاملة تعني أول ما تعنيه، هو التخلص من فرعي السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن مهمة الأمن التي أصبحت وظيفة أساسية لهما ستكون قد انتهت بفعل الواقع، وتعني عدم حاجة الإحتلال للسلطة وقيامه مباشرة بمهامه الأمنية القمعية بعد أن يفشل فرعي السلطة في فعل ذلك، وبالتالي لا حاجة لإستمرار تمويلهما وهذا الأمر سيؤدي إلى إنهيارهما بشكل نهائي والدخول في مرحلة ما بعد السلطة والمستفيدين منها وعجائزها التي لم تدرك بعد أن الشعب حيّ لا يموت، حتّى لو أغرقوه بآلاف الهموم اليومية.
الجوقة والحاشية، لن يقويا على إقناع أسرة فلسطينية واحدة هجّرتها الحرب في غزة بأن "إمارة قطر" أو "تركيا الإستعمارية" يمكنهما لعب دور الحاضنة للقضية الوطنية الفلسطينية، أو لقيادات الشعب الفلسطيني، ولا يمكنهما دعم تحرير فلسطين بالشوكولاه وولائم الخراف، فقد أصبحت القيادات السياسية تعيش مرحلة الإنكشاف التام أمام أبناء الشعب الفلسطيني، هذا ما تحدثت به إستطلاعات الرأي، وما يخبرنا عنه طفل فلسطيني يواجه دورية للإحتلال في شوارع مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين.
أمام هذه الحقائق الصادمة التي يدركها كل مواطن فلسطيني، بات واجباً على كل الوطنيين الفلسطينيين، من كل الحركة السياسية الفلسطينية، في المقدمة منها حركتي حماس وفتح، التصدى لظاهرة التنظير للفشل ومن يمثله، وتفعيل أفكار المحاسبة والتغيير الثوري في الحياة الحزبية الفلسطينية، ونفض طبقات الخوف والتردد المتراكمة على أدمغتهم وضمائرهم للحافظ على ما تبقى من شعب وأرض، ومواصلة معركة التغيير الحقيقي الذي يحلم به الشعب بأقل الخسائر وأكثر الإنجازات، والأهم من ذلك كله، تجنيب شعبنا أخطار الإنفجار القادم في وجه الفساد وأجهزة القمع وتجّار الدم.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]