المتسللون الفلسطينيون إلى قطاع غزة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

هو عنوانٌ غريبٌ ومثيرٌ للتساؤل والاستغراب، وقد لا يكون من السهل فهمه بسهولة، أو استيعابه ببساطة، حيث يستنكر البعض طرحه ويرفضون التعامل معه كقضية ومشكلة، ويعتبرون إثارته عيباً ومنقصةً، وإهانة وإساءة إلى وحدة الشعب الفلسطيني، إذ فيه انتقاصٌ من كرامة المواطنين وانتهاك لمساواتهم، واعتداءٌ على حقوقهم المكفولة بحرية التنقل الآمن داخل حدود أرضهم الوطنية التاريخية، وفيه تكريسٌ للتمييز الذي فرضه الاحتلال على أبناء شعبنا، وتصنيفٌ لسكانه، وتعميقٌ للأزمة التي زرع بذورها وروى غرسها، عندما خطط ليفرق بين أبناء الوطن الواحد، فأغرى بعضهم بالتعامل معه، وزين لهم الارتباط به والانتساب إليه، والتخلي عن انتمائهم العربي والوطني، ونجح في زرع بذور الشك بين أبناء الوطن وشركاء المصير، خاصة بعد أن أقنع بعضهم بجواز الخدمة العسكرية في صفوف جيشهم المحتل.
لكن واقع الحال يفرض علينا مناقشة هذا الموضوع، وطرح هذه المسألة، والتعامل معها بجديةٍ ومسؤوليةٍ، وصدقٍ إخلاصٍ وحسٍ وطنيٍ غيورٍ، ولو أنها قضيةٌ حساسةٌ ومحرجةٌ، فقد باتت قضية متكررة، وأصبحت متداولة بين عامة الفلسطينيين، الذين يشعرون بالتيه والضياع إزاءها، إذ لا يعرفون كيف يتصرفون ولا الوسيلة التي بها يحكمون على الأحداث التي هي في أغلبها فردية، وتعبر عن رغباتٍ مستقلةٍ، ويتساءلون أهي مسلكياتٌ وطنية بريئة، أم هي مشبوهة ومقصودة، وهل تنبع من إحساسٍ بوحدة الوطن ورغبةٍ في زيارةِ شقٍ منه عزيزٍ يظنونه محرراً، أم أنها تتم بموجب ترتيباتٍ مسبقة، وإعداداتٍ منظمةٍ، وعملٍ مقصود له غاية وهدف، ويشرف عليها أجهزةٌ أمنية وضباطٌ عسكريون.
الموضوع مثار البحث هو قيام بعض المواطنين الفلسطينيين البدو تحديداً، من سكان النقب وبعض الرعاة، بالتسلل عبر الأسلاك الشائكة من المنطقة الشرقية إلى قطاع غزة، دون علمٍ مسبقٍ أو إخطارٍ للسلطات الأمنية المشرفة على الأمن والحدود في قطاع غزة، ومن غير البوابات الأمنية المعروفة التي تربط القطاع ببقية الأراضي الفلسطينية، حيث تتفاجأ الأجهزة الأمنية بوجودهم، أو تتمكن من رصدهم وتوقيفهم قبل تمام دخولهم إلى القطاع، وقد تكررت هذه الحوادث قديماً وجديداً، وإن كانت في المراحل القديمة سهلة وغير منظورة أو مراقبة، فقد باتت اليوم صعبة ومرصودة ومتابعة، ومحل سؤال وموطن شبهةٍ واستنكارٍ أحياناً، ويحتاج من يقوم بها مغامراً بنفسه إلى تفسيرٍ مقنعٍ، وبيانٍ واضحٍ للأسباب التي تجوز له ما فعل، وتخرجه عن دائرة الشبهة والاتهام.
السؤال المنطقي والبديهي المطروح، هل يتسلل المواطنون الفلسطينيون إلى وطنهم، وهل يحتاجون إلى إذنٍ مسبقٍ بالدخول إلى مدن وبلدات وطنهم، خاصةً إذا كانوا لا يعترفون بالاحتلال، ولا يقرون بالتقسيم، ولا يقبلون بالتجزئة والتصنيف، وهل يوصفون في حال قيامهم بذلك بأنهم متسللون أو مندسون، وهل تنطبق عليهم تبعات التسلل من كونه جرماً ومخالفة يعاقب عليه القانون، وتوجب على مرتكبه الخضوع للمسائلة والتحقيق، والالتزام بعد ذلك بمنطوق الحكم وطبيعة العقوبة.
الحقيقة أننا أمام قضيةٍ وطنيةٍ، أخلاقية وقيمية من جانبٍ، وأمنية وسياديةٍ من جانبٍ آخر، إذ لا يقبل الفلسطينيون بمحددات الاحتلال، ولا يقرونه على مفاهيمه، ولا يضفون الصفات التي أرادها على أبناء شعبهم، ولا يساعدونه في تعميق الهوة بينهم، ولا يساهمون في دفع قطاعٍ كبير من أبناء شعبهم للارتماء في أحضان العدو، والإحساس معه وعنده بالأمن والطمأنينة والمودة والرعاية، وهي التي فقدها لدى شعبه وبين أهله، خاصةً أنهم لا ينسون السنوات العجاف القاسية التي تعرضوا فيها للإهانة، وسامتهم الأنظمة العربية سوء العذاب عندما اعتبرتهم "عرب إسرائيل"، وتعاملت معهم على أنهم مواطنين إسرائيليين، يحملون الهوية الإسرائيلية، ويتنقلون ويسافرون بالجواز الإسرائيلي، فمنعوا من دخول الدول العربية، وحرموا من أداء فريضة الحج، وفرضت عليهم مقاطعة قاسية أبعدتهم عن إخوانهم العرب أكثر، وقربتهم من العدو ذات المسافة.
ينبغي الحذر والانتباه في دراستنا لهذه المسألة، خاصةً أننا أمام تداخلٍ عائلي وامتدادٍ عشائري كبير، إذ أن الكثير من العائلات الفلسطينية التي تسكن وسط وجنوب قطاع غزة، تنتمي إلى عشائر تضرب في عمق الأرض الفلسطينية، وتمتد لتنتشر في أرجاء الوطن كله، وما زال بين شطري العائلات والعشائر روابطٌ عائلية وأواصر مصاهرةٍ كثيرة، يحرص عليها الطرفان على جانبي الحدود، هذا بالإضافة إلى تنامي المفاهيم الوطنية والقومية والإسلامية لدى أبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل، الذين أثبتوا بجمعهم أنهم لا يقلون ارتباطاً والتصاقاً بوطنهم من إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأنهم يتوقون للحرية والاستقلال تماماً مثل أبناء شعبهم في المنافي والشتات، والشواهد على ذلك كثيرة، وأعداد الشهداء والمرابطين في الأقصى والمدافعين عنه، تثبت أن قدمهم في الأرض راسخ، وأن حقهم في فلسطين ثابتٌ وباقي.
لا ننفي أن العدو الإسرائيلي عدوٌ خبيث، ومخابراته تنتهز كل فرصة، وتتحين كل مناسبة، وتستفيد من كل ظرف، وتستغل كل حاجةٍ لتنفيذ مآربها القذرة، والوصول إلى أهدافها المشبوهة، وهي كما تزرع العيون والعملاء بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي القدس، فإنه من غير المستبعد أنها تحاول توريط وإسقاط بعض الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وربطهم بأجهزتها الأمنية، وتكليفهم القيام بمهامٍ معينة، كالرصد وجمع المعلومات، ونقل الرسائل واستلامها وتوصيل الأموال، أو زرع الأجهزة وتثبيت الكاميرات وغير ذلك مما قد توكله المخابرات بهم.
إلا أن هذا الخطر الإسرائيلي الدائم، في الوقت الذي يفرض علينا التثبت من كل حالة، والتدقيق في كل مسألة، والشك في تصرفاته والظن في أفعاله، فإنه لا ينبغي أن يبطل أبداً أن فلسطين أرضٌ واحدة، وكلٌ لا يتجزأ، وإن استوطنها اليهود، وجعلوا منها وطناً لهم، فهي تبقى أرض العرب الفلسطينيين التاريخية من رأس الناقورة شمالاً حتى رفح جنوباً، ومن البحر الأبيض غرباً حتى نهر الأردن شرقاً، وهي ملكٌ للفلسطينيين جميعاً دون غيرهم، أينما كان مكان إقامتهم، في الوطن أو في الشتات، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة أو في النقب والجليل والمثلث، ومن حقهم جميعاً التجول فيها والإقامة حيث يريدون، والدخول إليها متى يشاؤون، والخروج منها حيث يريدون، ولا يجوز لسلطةٍ أن تمنعهم، ولا لقانون أن يحرمهم، فهذه هي فلسطين التي بها نعترف ومن أجلها نقاتل ونقاوم.


بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 16/7/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]