تكشف المحاولة الفاشلة للإنقلاب على النظام الديمقراطي التركي , العديد من الحقائق التي برزت في المشهد التركي العام , في مقدمتها رسوخ المبادئ الديمقراطية والإيمان الشعبي العارم بأهميتها في إدارة شؤون البلاد , وما تنتجه من حالة إستقرار وتطور في كثير من المجالات والجوانب التي تلامس الإنسان التركي في أدق حاجاته , وتحيط الشعب التركي بسياج من الحماية المجتمعية , عبر توفير مستوى من المعيشة والرعاية الصحية والتعليمية , بعيداً عن الإستبداد والقمع والفقر والخوف, الذي كان يلازم الجمهورية التركية لسنوات طوال تحت حكم العسكر التركي , وهذا ما يفسر إنتفاضة الشعب التركي العارمة ضد المحاولة الإنقلابية ونجاحه في إخمادها .
من الحقائق أيضا والتي أصبحت واضحة وضوح الشمس بعد الحركة الإنقلابية الفاشلة , أن تركيا الديمقراطية في مرمى الإستهدافات الآثمة متعدد المصادر والتوجهات والتمويلات , الا أنها تلتقي في الهدف المشترك , الذي يتمثل في السعي لتدمير تركيا الحديثة وتفكيكها , ولعل من الأدوات التي ظهرت مؤخراً تلك التفجيرات الإنتحارية التي ضربت المدن التركية , وأوقعت العشرات من القتلى الأتراك , لضرب عوامل الإستقرار وإضعاف الدولة التركية وإسقاط هيبتها, من أجل تعطيل وإنهاء دورها المحوري في المنطقة , والذي برز بشكل واضح في العصر الأردوغاني , الذي ينطلق من رؤية شاملة للمنطقة وشعوبها , وفي طليعتها التأكيد على حق الشعوب المقدس, في تقرير مصيرها وإختيار حكامها , ومناداته بضرورة إعتماد الطرق الديمقراطية للوصول إلى الحكم وتداول السلطة , ومنها ينطلق الطيب أردوغان في معارضته الشديدة , لحركة الإنقلاب العسكري على النظم الديمقراطية الوليدة في المنطقة , أو إستخدام الدبابات والطائرات في مواجهة الحراك الجماهيري المطلبي الذي ينادي بالحريات والإنعتاق من النظم الديكتاتورية , وهذه السياسة التي رفع رايتها الزعيم التركي الطيب أردوغان , أوجدت له الخصوم والمعارضين في المنطقة العربية ممن يخشون على كراسيهم , خاصة في ظل تأثر المنطقة بموجات التغيير السياسي عبر ثورات الربيع العربي , التي نجح بعضها وتم الإنقضاض على البعض الأخر, فأنظمة الإستبداد ترى في الخطاب السياسي للزعيم التركي الطيب أردوغان خطراً على أنظمتها القمعية , فسعت تلك الأنظمة إلى التحريض والتشكيك عبر دوائرها الإعلامية بالديمقراطيات وخاصة النموذج التركي, وعملت مخابراتها على حبك الإشاعات حول تحركات وخطابات الطيب أردوغان لإفراغها من مضمونها , لتحطيم صورته لذا الإنسان العربي الذي يطمح بنموذج أردوغاني في بلاده , حيث الحرية السياسية والتنمية الإقتصادية والتطور العلمي والتكنولوجي والرعاية الصحية , أضف إلى ذلك ما يتمتع به من شخصية رئاسية شجاعة وفذة , ملتصقة بهموم الشعب وقريب منه , بل أن الوصول إلى شخص الرئيس ومخاطبته سهلاً وميسوراً , وجميعها متوفر في شخصية الرئيس التركي ويتناقلها الفضاء الإعلامي المفتوح إلى كافة الأصقاع .
لقد ظهرت شخصية الرئيس أردوغان القوية في مواجهته للمحاولة الإنقلابية الفاشلة , وتجلت بشكل واضح ثقته العالية في شعبه ورهانه عليه , ولم يخيب الشعب التركي رئيسه أبدا, فخرج مسرعا تلبية لندائه في مواجهة أدوات الإنقلاب في الشوارع والميادين , ونجح في حصارها وإفشال مسعاها الإنقلابي, ومن هذه الإستجابة الشعبية الفورية إستمد أردوغان مزيداً من القوة والإقدام حيث توجه إلى أسطنبول , من أجل الإلتحام بشعبه الذي يرابط في الشوارع لمواجهة الإنقلاب وإفشاله.
لقد أضفى التصدي الشعبي العارم للمحاولة الفاشلة للإنقلاب على الرئيس التركي , حالة من الإعجاب والإحترام الإنساني العام للتجربة الديمقراطية التركية , وأعطت درساً تاريخياً للشعوب على مر العصور والأزمان , بأهمية الدفاع عن الشرعية الإنتخابية , وعدم التفريط بنتائج الصناديق وخيار الشعب , تنفيذاً لرغبات من يقود ويوجه الدبابات في الشوارع والميادين , فالجيش وجنرالاته لا قدسية ولا حصانة لهم , إذا تحركت جنازير دباباتهم لتدوس على صوت الشعب وخياره الديمقراطي , والمكان الوحيد لأي جيش وطني وبه ينال التبجيل , هو حماية الحدود من العدوان الخارجي , ولا يحق له دستوريا أن يتدخل في شؤون السياسة الداخلية في البلاد.
ويتكامل الأداء الواعي والمسؤول للمعارضة التركية والرافض للإنقلاب , ليزداد المشهد العام في تركيا مزيداً من التألق , ويؤكد الشعب التركي بكافة مكوناته وأيدلوجياته ثبات مبادئ الديمقراطية وتجذرها في الحياة التركية , وأن الوطن التركي وسلامة نظامه ووحدة شعبه , أهم بكثير من نزوات وطموحات السياسيين بالوصول إلى كرسي الرئاسة أو مقاليد الحكم , وبذاك إنتصرت المعارضة التركية في معركة الأخلاق والمبادئ , لتنجو الأمة التركية مجتمعة بسفينة الوطن, وتضرب بقوة على يد العابثين الذين أرادوا خرقها , من أجل شهوة في نفوسهم أو تنفيذاً لأوامر أعداء الوطن التركي .
لقد منحنا الشعب التركي دروساً وعبر مستفادة , من خلال تصديه وإفشاله للمحاولة الإنقلابية ,وكأنه يقول لكافة الشعوب أن الحفاظ على الخيار الديمقراطي ونتائج الصندوق معركة جماعية, يشترك فيها الموالي والمعارض هدفها حماية الخيار جمعي للشعب , الذي إرتضى الإحتكام لصناديق الإقتراع ونتائجها , فهل نعي هذا الدرس ؟ ويسقط السياسيين من حساباتهم ثقافة الإنقلاب على نتائج الإنتخابات ! , لقد عانينا في فلسطين من التنصل لنتائج التجرية الإنتخابية , ووضعت العراقيل الأمنية والإدارية أمام التجربة الوليدة , وتم تحريض الخارج على مقاطعة ما أنتجته من حكومة منتخبة , قد منحها المجلس التشريعي ثقته بأغلبيه ساحقة, ولعل من الثمار المرة لذلك الإنقلاب على الإرادة الشعبية ما نعيشه اليوم من حالة الإنقسام البغيض الذي أضر بلا شك بقضيتنا الوطنية , نحن اليوم نعيش أوجه الحديث عن الإنتخابات الفلسطينية سواء برلمانية أو بلدية , هل نملك الشجاعة للإعتراف بنتائجها ؟ والدفاع عن إختيار الشعب مهما كانت صورته , لعل المأمول هو أن نبني معا تجربتنا الديمقراطية , وندافع عنها مجتمعين في مواجهة كل من يحاول الإنتقاص منها أو التقليل من قدرة شعبنا على إختيار ممثليه .
بقلم/ جبريل عوده