إسرائيل واضطراب الإقليم... تأمّل خارج الصندوق

بقلم: محمد خالد الأزعر

الجدل المحتدم حول مآلات المنازعات الداخلية والبينية وعمليات الهدم والبناء، الآخذة بناصية كثير من الدول العربية المشرقية، لا ينبغي له أن يشغلنا عن تشوف نصيب إسرائيل من هذا الغمار. فعطفاً على المشهد الإقليمي الصاخب، الذي تعيش إسرائيل في بؤرته وتشتبك مع وحداته على نحو أو آخر، يصح ولعله يجب التساؤل عن احتمالات وقوع الدولة الصهيونية في براثن تحولات بعينها، وما إذا كانت بوادر التربص بما يدور بجوارها سعياً الى تحقيق مكتسبات أو الإفلات من أخطار. من الفروض المحفزة لمثل هذه الاستفهامات، أن إسرائيل تقع في التحليل الأخير ضمن مفردات خرائط سايكس بيكو التي أنتجت كثيراً من الكيانات العربية المضطربة راهناً.

لقد كان توليف هذه الدولة واستزراعها في قلب المحاور القارة في ضمير صناع هذه الخرائط، وهذا يسوغ التصور القائل بأنها ربما لا تكون في منأى عما يطرأ على محيطها من عوارض جوهرية. تتجلى معقولية هذا الفهم عند التأمل في مغزى تصريح بنيامين نتانياهو على الملأ قبل بضعة أشهر، في شأن نية دولته عدم التخلي عن الجولان. سياق هذا الطرح المستفز يوحي باستغلال رئيس الوزراء الإسرائيلي هوجة الحديث المتداول همساً، حول احتمال تغيير الجغرافيا السياسية السورية، وتأكيد اقتناص الجولان ضمن تفاصيل "الخريطة الجديدة".

لقد سبق لإسرائيل أن أعلنت عن ضم هذا الجزء من الأراضي التي احتلتها عام 1967، الأمر الذي لم يعترف به أحد من العرب والعجم. لكن ما يلفت الآن هو السياق الإقليمي، السوري بخاصة، المواكب لتجديد هذا الإعلان المتبجح. رسالة نتانياهو أنه إذا كان ثمة تفكير لإعادة رسم الخريطة السورية، فإن على المعنيين التسليم بأن الجولان سيظل حتماً وجبراً في حوزة إسرائيل.

محنة دخول الدولتين العراقية والسورية في نفق يظن البعض أنه قد ينتهي بهما إلى التصدع والتفكك وإعادة الهيكلة والتشكل، أغرت إسرائيل بإمكان استقطاع الجولان لنفسها كأمر واقع وشرعنته. في الوقت ذاته، لا يخفي قطاع واسع من نخب الفكر والصحافة والحكم والسياسة الإسرائيلية توقعاتهم، إزاء ما يعتبرونه فرصة لإنشاء شراكة مضمرة أو معلنة مع ما يدعونه معسكر أهل السنة في مواجهة أصحاب المذهب الشيعي. استناداً إلى هذا التوقع الأمنياتي، لا يكف الصهاينة عن الترويج لهذه الشراكة، وانتحال بعض الشواهد على واقعيتها وتمريرها، وبث ما تيسَّر لهم من سبل الوقيعة وإشاعة الفتن بين عرب وعرب وبين مسلمين ومسلمين.

في حمأة هذا التوجه، يغفل هؤلاء عن بعض دروس غزوة الفرنجة في القرون الوسطى، حين عرفت الرحاب المشرقية أنماطاً من التشظي والتنازع بين الدويلات المحلية المنمنمة، وأشكالاً من التعاون بين بعض هذه الدويلات وبين الغزاة، وهو ما انفضّ بعد حين وانتهى إلى تحالف أبناء المشرق العربي الإسلامي، بمِلله ونِحله وطوائفه ومذاهبه وقبائله ضد الفرنجة، وصولاً إلى استئصالهم. لقد كان تبلور الشعـور بـأن هـؤلاء الأخيريـن هم عـنـصر غـريـب تماماً في المحيط الإقليمي، أحد أهم عوامل تشكل ذلك التحالف والنتائج التي تأتت عنه.

في غمرة الانتشاء بمعالم فشل دول سايكس بيكو العربية وشحوب، ولعله أفول، هدف الوحدة بين هذه الدول، يغفل الصهاينة عنه أنهم بدورهم يعانون من بعض مظاهر الفشل. فدولتهم القائمة ليست تلك التي جالت بخواطر آبائهم الأولين ومخططاتهم، لا جغرافياً ولا سكانياً. وهناك من الصهاينة والإسرائيليين مَن يذهبون إلى أن هذه الدولة لا تنتمي إلى القيم التي توخاها المؤسسون، لا بالمعنى الديني ولا بالمعنى العلماني، وأنها "تنحدر سريعاً إلى مجرد غيتو، يستشعر سكانه التهديد وينعزلون عن عوالم الآخرين". من آيات معقولية هذه القناعة، المحاولة الجارية على أشدها لإعلان إسرائيل دولة يهودية صرفة، فمن شأن خطوة كهذه تأكيد أننا إزاء غيتو يهودي وقد أخذ حلة الدولة. وليس بعد ذلك سوى زوال المواطنة الإسرائيلية، كهوية فوق دينية قيد التشكل جدلاً، لمصلحة بروز أكثر من درجة للمواطنة وللحقوق والمكانات وفقاً للمعيار الديني والمذهبي والعرقي. وعندئذ، ما الذي يحول في وقت أو آخر دون إطلال الفتن والصدامات متعددة الأنماط بين أصحاب هذه الدرجات، على غرار ما تجتهد إسرائيل في وقوعه لدى دول سايكس بيكو؟.

محمد خالد الأزعر

* كاتب فلسطيني