نتنياهو منتشياً وفرحاً ، والأوكسجين يملأ صدره ورئاتيه ، وتعابير وجهه منشرحه رُغم قبحه ، ومؤكد معه كل ائتلاف إجرامه الحكومي ، ومن خلفهم جموع المستوطنين الذين يزداد توحشهم . كيف لا ، وهو يشاهد بأم عينيه حالة الانحدار في كل شيء ، على امتداد ذاك الوطن الذي لا زلنا متمسكين به ، والمُسمىّ الوطن العربي من محيطه إلى خليجه ، في زمنٍ لم يعد فيه هذا الوطن يشبه تاريخه ولغته وأبنائه الذين استبدلوا مصيرهم المشترك بلغة السلاح وهدر الدماء والتآمر من أجل حدود دويلاتهم الطائفية والمذهبية والعرقية بدماء أبنائهم ، وكأن لا تاريخ قد جمعهم ، أو لا يزال شيء منه يجمعهم ولو في الحدود الدنيا .
من حق نتنياهو أن يُسارع الخطى في توظيفه لتلك الأوضاع التي تعيشها المنطقة في أكثر دولها حضوراً وثقلاً إقليمياً ، على اعتبار أن الفرصة لا تلوح كما يقولون إلاّ مرة واحدة ، وفرصة نتنياهو هذه المرة بألف فرصة وفرصة . فمن كيان محاصر وشبه معزول ، وقد بدأت الأرض تضيق عليه في أكثر الدول تعاطفاً معه منذ نشأته على الأرض الفلسطينية ، بسبب جرائمه وبكل عناوين تلك الجرائم وبشاعتها . لنجد أن الأبواب المفترض على أنها الأكثر إحكاماً في الإغلاق بوجهه ، بدأت مفاتيح نقص المناعة الوطنية والقومية تدور في أقفال أوسع عمليات تطبيع مع " إسرائيل " ، التي لم تكن لتحلم بذلك لولا الإعصار الذي يضرب المنطقة منذ ست سنوات .
ها هي الدول الواحدة تلو الأخرى تستقبل نتنياهو والتي كانت تعتبره ولوقت قريب منبوذاً ، وتحرص على عدم الإقتراب منه أو اللقاء به . لينقلب المشهد رأساً على عقب فبدأت تلك الدول السعي لخطب وده والتطبيع مع كيانه على حساب ما كانت تعتبره هذه الدول بالقيم والمبادئ التي تساقطت الواحدة تلو الأخرى ، كما أوراق الشجر في الخريف . ولنجد بعض من تلك الدول امتهنوا السمسرة السياسية ليُظهروا لنتنياهو كم هم يحرصون على الكيان ومتطلباته واحتياجاته الأمنية . تلك الدول بدأت ممارسة الضغوط من أجل أن إنشاء منظومة عمل إقليمي ببعديه الاقتصادي والأمني بالشراكة مع " إسرائيل " ، ، تحت ذريعة أن التسليف في السياسات ولو حساب الحقوق العربية والفلسطينية ، هو السبيل الوحيد من أجل إقناع ساسة " إسرائيل " الانخراط في عملية سياسية تفاوضية جادة وإيجاد الحل الخديعة " حل الدولتين " ، وهي لهذه الغاية اقترحت على بعض الدول النافذة إقليمياً ، إدخال تعديلات جوهرية على المبادرة العربية ، بحيث يكون حق عودة الفلسطينيين من النقاط المطلوب إسقاطها من المبادرة .
من تركيا الأردوغانية التي صعدت أعلى قمة الشجرة في مواجهتها ل" إسرائيل " على خلفية سفينة مرمرة ، نجدها اليوم تتهاوى إلى أسفل تلك الشجرة التي أنزلها عنها نتنياهو ، مسقطاً كل اشتراطاتها في عودة العلاقات والتطبيع معها ، خصوصاً ما يتعلق بفك الحصار الكامل عن قطاع غزة ، ليتحول إلى تخفيف القيود عن القطاع من دون فك الحصار .
إلى توطيد العلاقات الروسية – " الإسرائيلية " ، والزيارات المتتالية التي قام بها نتنياهو إلى موسكو ، التي تعمد ومن الكرملين القول أن الجولان باقية كجزء من الكيان " الإسرائيلي " ، ولن يعيدها للسيادة السورية مطلقاً . والمفارقة أنه وفي الوقت الذي يعمل الكيان قتلاً وحرقاً وتهويداً واستيطاناً يقوم الرئيس الروسي بوتين بإعادة الدبابة التي غنمها الجيش السوري خلال في حرب العام 1982 ، في دلالة بالغة عن عمق العلاقة الروسية – " الإسرائيلية " .
لنلاحظ أن التطبيع بين العديد من الدول العربية وتحديداً الخليجية مع " إسرائيل " آخذ بالتطور والتسارع في خطواته ، من خلفية استبدال أولويات الصراع ، لتتحول وجهته من صراع مع " إسرائيل " ، إلى صراع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية . وهذا ما تأكده الاصطفافات الإقليمية التي تسير نحو التبلور ، والحديث علانية أنه من الممكن الاعتماد على " إسرائيل " في مواجهة ما أسموه الأطماع والحد من التطلعات التوسعية الإيرانية في المنطقة ، وهذا ما عبر عنه نتنياهو في قوله خلال حضوره دورة بكلية ما تسمى ب" كلية الدفاع الوطني " :- " أن هناك العديد من الدول العربية المحيطة بإسرائيل بدأت تتفهم أن إسرائيل ليست عدوا وإنما صاحبة تحالف معه " . في خطوة من شأنها وبكل الوضوح أن تكون على حساب القضية التي لطالما اعتبروها القضية المركزية لهم ، لتنقل تلك الدول من موقع الداعم للفلسطينيين إلى موقع الضاغط عليهم من أجل دفعهم مرة جديدة إلى طاولة المفاوضات مع نتنياهو الذي قال :- قديماً كان يعتقد أن علاقات سلام مع الفلسطينيين يخلق توصلاً للسلام مع العالم العربى ، لكن الآن الحال تغير ، بمعنى أن دفع العلاقات مع الدول العربية سيخلق سلاماً مع الفلسطينيين" . وفي السياق أتت زيارة وزير الخارجية المصرية سامح شكري إلى الكيان ولقائه نتنياهو حاملاً رسالة من الرئيس السيسي وصفت بالهامة وتتمحور حول المقترح المصري بما يتعلق بالتسوية بين السلطة والكيان ، والتي أتت بالتزامن مع المبادرة الفرنسية التي عمل نتنياهو على تمييعها ، من خلال حديثه بإيجابية عن المبادرة العربية . وما كشفه السيد عباس زكي عضو اللجنة المركزية في حركة فتح على شاشة قناة الميادين ، عن أن مقترح مصري حول عقد قمة تضم إلى جانب الرئيس السيسي كل من رئيس السلطة السيد محمود عباس ، ورئيس حكومة العدو نتنياهو ، يأتي في سياق الجهود التي تتخوف السلطة الفلسطينية عن أن تلك الخطوات من شأنها قطع الطريق أمامها للتوجه نحو تدويل القضية . ناهينا عن زيارة نتنياهو إلى عدد من عواصم الدول الإفريقية ، والتي وصفتها أوساط " إسرائيلية " بالناجحة والناجحة جداً .
لتتوج تلك الخطوات الإنفتاحية اتجاه " إسرائيل " ، وتمثلت في تسليم رئاسة اللجنة القانونية في المنظمة الدولية إلى إسرائيل ، برئاسة مندوبها " داني دانون " . هذا من جهة ومن جهة أخرى تقرير الرباعية الدولية الأخير والذي جاء محملاً الفلسطينيين مسؤولية العنف وتردي الحالة الأمنية في الأراضي المحتلة ، ومساوياً بين الضحية الفلسطينية والجلاد " الإسرائيلي " .
والمؤسف أنه في الوقت التي تُشرعّ الأبواب أمام " إسرائيل " ، يزداد المشهد سوءاً في المقلب الفلسطيني ، من خلال ضيق مساحة وهوامش الحركة السياسية أمام السلطة ، وبالتالي استمرار حالة الانقسام والمرشحة إلى المزيد من التكريس جغرافياً وسياسياً ، وتراجع ملحوظ في أعمال الانتفاضة بفضل السياسات الأمنية التي تتبعها السلطة وأجهزتها الأمنية ، وازدياد الصعوبات الاقتصادية أمام السلطة مع حالة من الفلتان الأمني التي تشهدها بعض مناطق السلطة ، ناهينا الحديث الذي يدور عن صراع محموم على خلفية من سيرث الرئيس عباس في رئاسة السلطة ، والطامحين إن لم نقل الطامعين فهم كثر .
رامز مصطفى