فلسطين… لنعترف! نحن لا نستطيع أن نموت!

بقلم: إبراهيم نصر الله

في روايته البديعة (انقطاعات الموت) يقول خوسيه ساراماغو: (إن المستقبل هو اليوم)، وهو يتابع تلك الظاهرة الغريبة التي يتوقف فيها الموت عن العمل، لكن الأمر مختلف في فلسطين، إذ يوقف الشعب الموت عن العمل، قائلين له ببساطة الضحايا وبلاغة الضوء الذي يملأ أعينها: لنعترف، نحن لا نستطيع أن نموت!
نستدعي هذا كله، ونحن نتأمل الظاهرة المبدعة التي يتبناها الشباب الفلسطيني بشكل خاص، وهم يرفعون وطنهم إلى الأعلى بأفكار إبداعية خلاقة، بعيدا عن زمن الشعارات الساذجة، والخطابات الرنانة، التي مضغت آذان الناس وقلوبهم، ورمتهم في النهاية في مستنقع أوسلو وسلام الشجعان المريض.
في مطلع هذا الأسبوع، كانت مبادرة يوم الزّيّ الفلسطيني، حيث شقّت فتيات ونساء فلسطين الصباح، والشوارع في مدن فلسطين وخارجها بأثواب جداتهنّ وأمهاتهن، أو أثوابهن الصغيرة التي طرّزنها، أو طرزتها أمهاتهن بضوء الأعين، غرزة غرزة، كما لو أن كل غرزة خطوة في اتجاه الوطن، خطوة نسيرها من المنافي إليه، أو خطوة نسيرها في الداخل إليه، ذلك الوطن القريب مثل القلب، والمسروق مثل حبيبة.
وعلى بعد أمتار، كان يمكننا بوضوح أن نشاهد زهو الشباب بأثواب شعبهم، تلك التي غدت، مسرحا للسطو من قبل كيان عنصري يقاتل بكل وسيلة كي يؤسس هوية له، وللمفارقة، لا ليشبهنا، بل ليؤكد أنه يريد أن يكوننا، وهي مفارقة غريبة، تلك، حين يصر المُحتل أن يكون على صورة ذلك الواقع تحت احتلاله.
هذه المبادرات الرائعة التي يبتكرها الشباب، لم تعد تتوقف، ولعل أهمها بدأ يتشكل منذ الذكرى الخمسين للنكبة، وإن كانت هناك مبادرات قامت بها النساء في مطالع الثورة في نهايات الستينيات ومطالع السبعينيات من القرن الماضي، مثل مبادرة (كنزة الفدائي) التي كانت ترمي لحياكة (بلوفر) من الصوف للفدائيين في قواعدهم، تقيهم شر البرد في ذلك الزمان، وقد وجدت تلك المبادرة أفقها في رواية (زيتون الشوارع) التي كتبتها قبل عشرين عاما.
لكن المبادرات، التي لم تنقطع، والتي ابتلعها ضيق كثير من وسائل الإعلام بفلسطين، فولدت في العتمة، وظلت تتحين انبثاق أول شعاع من الضوء، وجدت نفسها بعد زمن طال، مُحتضَنة من قبل وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة.
من تلك المبادرات الرائعة المبكرة أيضًا: جدارية العودة، التي انطلقت عام 2001، بفكرة من الأردنية الناصعة، الراحلة، الدكتورة عايدة الدباس، وشيخ المناضلين الفلسطينيين الراحل، بهجت أبو غربية، والمهندس خالد رمضان. وشارك في إنجازها 120 مؤسسة مدنية و5000 امرأة، انطلاقا من مدينة السّلط الأردنية العريقة، إلى باقي المدن.
ضمت تلك الجدارية أسماء 1144 قرية ومدينة فلسطينية طرزت باللون الأحمر الذي يدل على القرى المهدمة، والأخضر الذي يدل على أنها قرى ومدن قائمة، وتم تطريزها من قبل مجموعة كبيرة من النساء الأردنيات والفلسطينيات بواقع 14 مليون غرزة، بمساحة 200 متر مربع.
وما لبثت المبادرات الرائعة أن توالت في ذكرى النكبة، ومن بينها، مبادرة إطلاق البالونات السوداء في سماء فلسطين، أو إطلاقها بعد الكتابة عليها: الصغار لا ينسون، أو إطلاق آلاف البالونات السوداء، أيضا، في سماء القدس والمدن الفلسطينية، في الذكرى الستين لقيام الدولة الصهيونية. آلاف البالونات سوداء اللون، استنكارا لزيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، وزعماء آخرين، قدموا للمشاركة في الاحتفالات الإسرائيلية، بالذكرى البغيضة. حيث تم إطلاق 21951 بالونا أسود، بعدد الأيام التي مضت على قيام الدولة الصهيونية، منذ عام 1948. وكان هدف المبادرة، كما عبر عنه أصحابها: أن تتشح سماء القدس بالسواد فوق رؤوس المحتفلين.
ولم تتوقف المبادرات، التي بات من الصعب الحديث عنها كلها، في مقال كهذا، فظهرت مبادرة: حب في زمن الأبارتهايد، والتي التف حولها الشباب المتواجدون في كل فلسطين التاريخية، مطالبين بحقهم في الحب واختيار الشريك، والزواج أينما تواجدوا لبناء حياة زوجية، تحرِّمها القوانين الصهيونية على الفلسطينيين والفلسطينيات وهي تسلبهم حرية اختيار الشريكة أو الشريك، ومع هذه القوانين جدران الفاشية الجديدة، في زمن (لا يصل الحبيب إلى الحبيب.. إلا شهيدا أو شريدا)، وكانت الأعراس الافتراضية، أو الحقيقية، نموذجا للإصرار على (العرس الفلسطيني الذي لا ينتهي) كما عبر عنه محمود درويش.
وكان هناك مبادرة التصدي لقانون براڤو، الذي يمثل استمرارا لحملة الاقتلاع التاريخي للفلسطينيين من وطنهم وإحداث نكبات متتالية بحقهم بهدم مئات البيوت، وسلب ما تبقى لأبناء الداخل المحتل عام 1948 من أراض في منطقتَي النقب والجليل. كان القانون يرمي إلى حصر وجود الفلسطينيين الذين يشكلون 30٪ من سكان منطقة النقب في نحو1٪ فقط من أراضي هذه المنطقة، مع قطع أسباب الرزق والعمل عنهم ليتحولوا إلى مجرد عمال لدى الاحتلال.
ولا نستطيع هنا إلا أن نتذكر باعتزاز مبادرة (أرفض شعبك بيحميك) الرامية إلى رفض تجنيد الشباب الدروز في الجيش الصهيوني، وقطع الطريق على العدو الذي يرمي إلى شرخ وحدة الشعب الفلسطيني. وقد توالت مواقف الرفض للخدمة الإلزامية من قبل "أحفاد القائد سلطان باشا الأطرش والمعلم كمال جنبلاط"، كما عبر عن ذلك الرافضون، مهما كانت العواقب والعقوبات.
ولعل من أعمق المبادرات وأبلغها أثرا حملة المقاطعة العالمية للكيان الصهيوني، التي تناولناها في أكثر من مقال هنا، والحملة الباهرة التي قادها الشهيد بهاء عليان، بإقامة أطول سلسلة للقراءة حول أسوار القدس، تحتضن المدينة بالوعي، وبأروع ما في الكتب من جمال، وحملة (حرية.. لا لحصار غزة) التي شارك فيها سبعة آلاف طفل بطائراتهم الورقية، وكذلك مبادرة غناء نشيد (موطني) في فلسطين وخمسين بلدا في العالم في يوم واحد، النشيد الجميل الذي كتبه شاعر فلسطين إبراهيم طوقان، ولحنه الموسيقار اللبناني محمد فليفل، أو مبادرة قرية (باب الشمس) التي اشتقت من اسم رواية إلياس خوري، أو مبادرة تتبع خطى ظاهر العمر الزيداني، على طريق إنشاء دولة فلسطينية في القرن السابع عشر، والتي قام بها قراء رواية (قناديل ملك الجليل).
وفي مسار هذه المبادرات الجماعية ظهرت مبادرات فردية رائعة، مثل تلك التي يواصلها الشاب طارق البكري عبر الصور في مشروع (كنا وما زلنا) التي يوثق فيها القرى المهجرة ويقارن بالصور ما كانت علية بيوت الفلسطينيين وما آلت إليه، وإلى ذلك كل مشروع تقوم به الشابات، أو يقوم به الشباب والشيب في فلسطين وخارجها في المجالات الفنية والأدبية والتاريخية الحضارية كلها.
كل هذا الإبداع، يعي أن مستقبل فلسطين هو اليوم، لكي يكتمل جمالها غدا. إبداع يشرح الصدور، وينير القلوب، ويؤكد يوما بعد يوم، مأزق الصهاينة وشركائهم في سلطة أوسلو، وكل كراسي العواصم المهرولة، لا للسلام الكاذب فحسب، بل إلى التصهين.

إبراهيم نصر الله