يبدو مركز القرار الفلسطيني في حالة انتظار حدث ما أو فرج ما يبــــدو لي أنه لن يأتي على الأقلّ في المـــدى المنظور. ويتأكّد حدسي بالنظر إلى موقــــع إسرائيل في خارطة الصراع أو الأصــحّ "اللاحرب" القائمة أو الاتفاقات الضـــمنــــية والسلام غير المعلن بينها وبـــين الجـزء الأكبر من المُحيط العربي.
فإسرائيل هذه الأيام في أفضل وضع استراتيجي يُمكن أن تحلم به. فقد زالت وتلاشت من حولها كل الأخطار الوجودية التي تمثّلت سابقاً في عراق مجيّش بجيش قوي عدداً وعدّة، وفي جيش سوري، وفي تهديد إيراني يبدو لي أنه لم يعد قائماً. كانت هناك عواصم قوية فاعلة وديبلوماسية عربية مؤثّرة تفككت مع تفكّك المنظومة العربية ودول عربية من السودان جنوباً إلى العراق شرقاً وشمالاً. أما غياب الاستقرار السياسي - الاقتصادي في الدول التي لم تتفكك، فقد أعطى إسرائيل هامشاً واسعاً للمناورة ليس في ساحة الصراع مع الفلسطينيين، وهي ساحة ضيّقة نسبياً - بل في ساحة الشرق الأوسط الممتدة من المغرب غرباً إلى أفغانستان شرقاً.
وليس هذا فحسب، بل إن ظهور "داعش" بعد انتشار الإرهاب القاعدي ونمو حركات الإسلام العدمية والمشهد العنيف الذي رسمته في الحيز الغربي كما في الحيز العربي وذاك الإسلامي، وانهيارات محصلات اتفاقات سايكس - بيكو 1916، وتحولات الإقليم العربي منذ 2011، كلها - أعطت لإسرائيل متسعاً وعُمقاً استراتيجياً جديداً غير الذي امتلكته سابقاً (على هيئة تفوّق عسكري شبه مُطلق ودعم غربي غير محدود في القضايا الاستراتيجية الكُبرى). هذا ناهيك عن سيادتها وسيطرتها ونجاح نظامها السياسي وفلسفتها على رغم الهزّات. ونرجح أنه كلّما زادت الداعشية فاعليتها فإن المحصّلات المتأتية من ذلك سيصبّ قسم كبير منها في مصلحة إسرائيل استراتيجياً. ولو من قبيل أنه يؤجّل "القضايا الصغيرة" أو يحذفها ومنها - للأسف - القضية الفلسطينية. في المقابل، من الطبيعي أن تتغيّر خريطة المصالح في المنطقة في شكل تجد إسرائيل نفسها في صفّ قوى إقليمية وعربية لا تسألها عن الفلسطينيين بل تسألها كيف السبيل إلى ردّ خطر الإرهاب أو درء التفكك وبعث الاستقرار. مثل هذا اللقاء - وهو حاصل - يأتي على حساب المسألة الفلسطينية على الأقلّ في منظور السياسات الإسرائيلية وتطبيقاتها.
إن الوضع الذي نشأ كما أسلفنا، أفضــــى إلى اختفــــاء التهديدات الوجودية على إسرائيل وإن أبقى على تهديدات استراتيجية تتمثّل في حكم حماس في غزة وحكم حزب الله في بيروت! هذان يشكـــلان تحديين استراتيجيين ليس إلا، والتحـــدي الاستراتيجي مختــــلف عن ذاك الوجـــودي في أنه لا يهـــدد كيان إسرائيل أو وجودها، وإن هـــدّد أمنها ومناطق واسعـــة منها نسبياً. أو بكلمات أخرى، تستطــــيع إســــرائيل التخلّص مـــن هذين التـهـــديدين تمـــاماً وإن بثمن كبير نسبياً تحاول ألا تدفـــعه في المـــدى المنظور على الأقلّ. وهذا لا يعني أنها لن تكون مستعـــدّة في ظروف أخرى أو أنها تراهن على تحولات إقليمية وداخلية تُعفيها من ذلك فتتخـــلّص من هذين التهديدين من دون دفـــع أي ثمن. أو كما يحدث عادة - قد يدفع ثمن ذلك طرف ثالث بدلها!
في مثل هذه الحالة من نجاح المشروع الصهيوني على كل الأصعدة وأفول المشروع العربي - وهي الحالة الاستراتيجية الأساسية هنا، قد تتطور في إسرائيل ثلاث نزعات - ونحن من موقعنا في قلب الحدث نشهدها حاصلة، الأولى - أن الوضع الاستراتيجي الجديد لإسرائيل يجعلها أكثر كرماً مع الفلسطينيين وأكثر قُدرة على التحرّر من معتقدات قابضة في الصراع والذهاب نحو حلحلة الوضع والتسوية مع الفلسطينيين على نحو ما. الثانية - أن الوضع الاستراتيجي الأمثل هذا سيدفعها إلى التعنّت والتصلّب وإدارة الظهر تماماً للشعب الفلسطيني ومسألته. الثالثة - محاولة الدمج بين الخطين من قبيل الواقعية ولو لوجود نحو خمسة ملايين فلسطيني بين البحر والنهر ومن المستحيل التصرف كأنهم غير موجودين.
في واقع ما يحصل، نشهد تطبيقاً للنزعات الثلاث الآنفة الذكر. وفي واقع السياسة الإسرائيلية واستناداً إلى القراءة الاستراتيجية أعلاه، نرجح حصول دمج إسرائيلي من النزعات الثلاث. أما المحصّلة التي نقرأها فهي أن الإسرائيليين مستعدون في أحسن الأحوال لتحسين أوضاع الفلسطينيين واقتراح ترتيبات على الأرض - أشكال متفاوتة من السيادة والحكم الذاتي - كجزء من تصوّر أن التفوق الاستراتيجي الراهن يُتيح الإبقاء على السيادة الإسرائيلية بين البحر والنهر مع تقديم إغراءات اقتصادية وإدارية وسيادية (منقوصة) للفلسطينيين. وقد بدأنا نشهد خطاباً إسرائيلياً رسمياً في هذا الاتجاه يؤكّد الفُرص الاقتصادية للفلسطينيين وحصتهم في النمو مقابل الصفر الذي سيحصلون عليه لو أنهم لم يقبلوا ذلك.
أعرف عن مناقشات استراتيجية فلسطينية في المستوى الشعبي المدني وفي المستوى الرسمي، وأعرف، أيضاً، أنه يُمكن اعتماد بعضها أساساً لمرحلة فلسطينية جديـــدة من التعامل مع القضية ومآلاتهــــا. تنحكـــم بعض المناقشات إلى الشعور بأن شيئاً ما يُفلت من أيدي الفلسطينيين ويمضي. وعليه، ينبغي أن يكون الردّ في التمسّك بـ "ثوابـــت" و"مسلّمات"، علماً أن التحولات في الساحة الفلسطينية ذاتها نسفت هـــذه كلها وتلك. وينحكم البعض الآخر إلى الشعور بواجب قراءة التحولات والمتغيرات كافة وبناء استراتيجية فلسطينية جديدة تتجاوز كل ما عرفناه. وأجــــدني منحـــازاً تماماً الى هذا النوع من القراءات لإنهاء مرحلة الانتظار والــجمود والتعامل استراتيجياً مع المــــوقع الاستراتيجي الجديد لإسرائيل والتــأسيس مجدداً لمشروع سياسي.
مرزوق الحلبي