نظّم "مركز مسارات لأبحاث السياسات" سلسلة من حلقات النقاش تحت عنوان "ما العمل؟"، وتحدث في هذه الحلقات عشرة مشاركين ينتمون إلى فصائل العمل الوطني أو مستقلين، وقدم كل منهم وجهة نظر شاملة أو حول موضوع من المواضيع. وقد هدفت تلك المناقشات إلى الإجابة أو التقدم على طريق الإجابة عن ثلاثة أسئلة، وهي: أين تقف القضية الفلسطينية الآن؟ وإلى أين تريد الوصول؟ وكيف تصل إلى ما تريد؟ ويحاول مركز "مسارات" في نهايتها تحديد نقاط الاتفاق والاختلاف والدخول في التفاصيل والأعماق بهدف التوصل إلى إجابة وطنية متقاربة أو مشتركة قدر الإمكان.
إن الإجابة الوافية على هذه الأسئلة تساعد على تجاوز المأزق الشامل الذي يمر به النظام السياسي الفلسطيني بمختلف مكوناته، والناجم عن وصول استراتيجية الحل السياسي والمفاوضات الثنائية إلى طريق مسدود، من دون توفر القناعة الكافية والإرادة اللازمة لتغييرها عن طريق اعتماد استراتيجية جديدة قادرة على تحقيق الأهداف والحقوق الفلسطينية. علماً أن استراتيجية المقاومة المسلحة تم التعامل معها كاستراتيجية أحادية، وهو ما ساهم في وصولها إلى وضع باتت تُستخدَم فيه للدفاع عن مصالح فئوية وعن السلطة، وفي مجال تحسين الشروط الداخلية لهذا الفصيل أو ذاك، أكثر مما هي استراتيجية تحرر وطني.
بداية، لا بد من تحديد الأهداف التي يريد الشعب الفلسطيني تحقيقها. فهل الهدف يتمثل بإقامة دولة على حدود 1967 أو ضمنها، أم بإنجاز حق العودة للاجئين وحق الشعب في تقرير مصيره، بما يشمل إمكانية قيام دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، وتحقيق المساواة للشعب الفلسطيني في أراضي 48 كمرحلة أولى على طريق إنجاز حل تاريخي جذري، أم التأسيس لدولة واحدة؟
من دون تحديد الهدف الوطني الأساسي الذي يُراد تحقيقه، لا يمكن وضع استراتيجية سياسية ونضالية. فالاستراتيجيات هي الطريق الذي نسير فيه من النقطة التي نقف عندها إلى تلك التي نريد الوصول إليها.
لا يمكن التسليم بعد كل ما جرى وبعد التنازلات والأخطاء والخطايا التي ارتكبت في "أوسلو" وقبله وبعده بأن الهدف الوطني أو المشروع الوطني واضح ومعروف ومتفق عليه. فالقضية الأولى للإجابة السليمة على سؤال "ما العمل" تتمثل بإعادة تعريف أو تحديد أو بلورة المشروع الوطني الجامع، القادر على توحيد الفلسطينيين أو الغالبية الساحقة منهم في أماكن تواجدهم كافة، مع أخذ الظروف والخصائص التي تميز كل تجمع في الحسبان.
القضية الثانية تتصل بطبيعة العنوان الذي ينبغي أن يحوز الأولوية: أيتمثل ببلورة رؤية شاملة وبإعادة تعريف المشروع الوطني، أم بإنهاء الانقسام السياسي والجغرافي؟ وهذه فكرة في منتهى الأهمية، ومن أجل تفكيكها لا بد من الإشارة إلى أن الجهود المبذولة من أجل إنهاء الانقسام، والتي تجاهلت المضمون السياسي والاتفاق على المشروع الوطني أولًا، قد باءت بالفشل ومحكوم عليها بالفشل. والدليل أنه كلما لاحت في الأفق إمكانية لنجاحها كما ظهر بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية إثر "اتفاق مكة" في شباط 2007 أو بعد توقيع "اتفاق القاهرة" في أيار 2011 أو تشكيل حكومة الوفاق الوطني عقب "إعلان الشاطئ" في نيسان 2014، تنهار الآمال من جديد جراء الخلافات الناتجة عن الانقسام.
في هذا السياق، يمكن القول إن اقتراح إجراء الانتخابات كآلية لحسم الخلاف وقبل التوصل إلى توافق وطني على القواسم المشتركة، لا يتناسب مع الظرف الخاص الذي يمر به الشعب الفلسطيني (ففلسطين تحت الاحتلال وخاضعة لمشروع استعماري استيطاني). كما أن إجراء الانتخابات وصفة جرى تجريبها في العام 2006 ورأينا ما حدث، وإلى أين وصلنا. علماً أن تجريبها الآن سيقود حتمًا، ما لم يُتفق على الاستراتيجية السياسية والنضالية بحدها الأدنى، إلى تعميق الانقسام وتحويله إلى انفصال دائم، لا سيما في ظل ترسّخ البنية السياسية والفكرية والاقتصادية والأمنية التي تمخضت عنه.
إن المطلوب وضع الجهود لإنهاء الانقسام في سياق إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني، وتعريف المشروع الوطني، وإعادة بناء مؤسسات "منظمة التحرير" على أسس وطنية وديموقراطية توافقية لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي المؤمنة بالمشاركة وبقواعد وأهداف العمل الوطني المشترك، بحيث تكون الانتخابات في هذا السياق أداة من أدوات تحقيق المشروع الوطني، لا أداة لتكريس الأمر الواقع الذي وصلنا إليه.
لا يمكن تقديم الانتخابات بوصفها حلًا سحريًا من دون الاتفاق على وظيفتها في ظل الشرط الاستعماري الذي تعيشه فلسطين. ولا يمكن الذهاب إلى إجرائها قبل الحسم في ما إذا كنا نريد البقاء أسرى المسيرة السياسية الدائرة منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا، الناتجة عن قيود "اتفاق أوسلو" والتزاماته المجحفة، أم نريد التخلص من هذه القيود وبلورة استراتيجية جديدة تكون الانتخابات إحدى أدواتها، إضافة إلى الإجابة على سؤال ما إذا كانت الانتخابات للدولة أم للمجلس الوطني أم لكليهما.
هل يمكن إجراء الانتخابات وتكون خطوة إلى الأمام في ظل الشرذمة والتيه والمأزق الشامل الذي يمر به النظام السياسي الفلسطيني، وقبل بلورة المشروع الوطني وإيجاد المؤسسة الجامعة وتحديد أشكال وأدوات النضال المناسبة لكل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني، خصوصًا أن الاحتلال في ظل الواقع الراهن لا يمكن أن يسمح بإجرائها ما لم يضمن أن تحقق له مكاسب ملموسة؟
في ضوء ما سبق، يتمثل المدخل إلى الخلاص الوطني بإعطاء الأولوية للاتفاق على استراتيجية سياسية ونضالية جديدة (برنامج وطني) تستجيب لمصالح الشعب الفلسطيني وأولوياته واحتياجاته في جميع أماكن تواجده، بما يفتح الطريق للأمور التالية:
- الشروع في حوار وطني يستهدف التوصل إلى رؤية شاملة تفتح الطريق للاتفاق على الاستراتيجية السياسية والنضالية التي تجسد القواسم المشتركة وتجعل الشعب الفلسطيني قادرًا على مواجهة التحديات والمخاطر وتوظيف الفرص المتاحة.
- إعادة بناء مؤسسات "منظمة التحرير" لتكون مؤسسة وطنية جامعة، عبر تفعيل الإطار القيادي المؤقت بعد توسيعه من خلال ضم ممثلين إليه من مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني والمرأة والشباب. على أن يقوم الأخير بقيادة الوضع الفلسطيني في المرحلة الانتقالية، بما لا يتجاوز مؤسسات المنظمة، خصوصًا اللجنة التنفيذية، وينتهي دوره بعقد مجلس وطني جديد بمشاركة كل من يؤمن بالشراكة، ويكون على جدول أعماله وضع ميثاق وطني جديد وإقرار الاستراتيجية السياسية والنضالية والنظام الأساسي.
ـ تشكيل حكومة وحدة وطنية على أسس جديدة وبأفق مختلف فورًا وبعد إجراء الانتخابات بغض النظر عن نتائجها، بحيث تكون مهامها إعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها، وإعادة بناء مؤسساتها وتوحيدها بما ينسجم مع هدف التحرر من "أوسلو"، وجعل السلطة تجسيدًا للدولة وأداة من أدوات البرنامج الوطني و "منظمة التحرير".
هاني المصري