كفى تبذيرا من حساب "الاخطاء المسموحة"

بقلم: عماد شقور

بين نتائج "الاخطاء المسموحة"، من جهة، ونتائج "الاخطاء غير المسموحة"، في المقابل، فرق جوهري. ففي حين انه لا عقاب على الاخطاء المسموحة، فان للاخطاء غير المسموحة عقابا يتناسب طرديا مع حجم وأبعاد تلك الاخطاء. هذا إذا افترضنا حسن النية عند الطرف المتضرر.
والفرق شاسع للغاية بين حجم رصيد الاطراف المختلفة من "الاخطاء المسموحة". فحجم رصيد روسيا، مثلا، من تلك الاخطاء، اكبر بما لا يقاس من حجم ذلك الرصيد لدى العراق. وما دفعه العراق ثمنا لاجتياح الكويت، اكبر بما لا يقاس من ثمن "استعادة" روسيا لشبه جزيرة القرم. وعلى مثل هذه المقارنة يتم القياس.
ننتقل هنا من النظري إلى العملي في ما يخصنا، وهو: "الاخطاء المسموحة" لقيادات الجماهير الفلسطينية في اسرائيل، واكثر دقّة: التبذير في الصرف من ذلك الرصيد.
بداية، يجدر بنا ملاحظة ان تلك القيادات، "بالجُملة وبالمُفرّق"، كانت على وشك خسارة مواقعها قبل عامين، بسبب ارتكاب مسلسل اخطاء ابتداء من يوم انطلاق "الانتفاضة الفلسطينية الثانية"، وحتى إلى ما قبل سنتين تقريبا، وتحديدا: حتى نهاية العام 2014. تلك القيادات ارتكبت اخطاء من انواع شتّى: بعضها زاود وطنيا واستجاب لما هو رد فعل جماهيري مفهوم ومبرر، وهم يتابعون انفلات جيش الاستعمار والاحتلال الاسرائيلي، في التنكيل بابناء شعبهم في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. وبعضها تخلت عن دورها في قيادة الشارع، وانقادت هي للشارع، في حين ان آخرين من تلك القيادات خشيت المواجهة، وانساقت مع المزاودين.
ما حصل قبل سنتين كان انقاذا، وإن جزئيا، لتلك القيادات. حيث انه من حسن حظها أَن كان في الائتلاف الحاكم في اسرائيل، شخص مؤثر، هو افيغدور ليبرمان، الذي "نجح"، جرّاء خطأ ارتكبه، في توحيد الجماهير الفلسطينية في اسرائيل، والتسبب في تشكيل "قائمة مشتركة" من غالبية تلك القيادات، ومن ورثتها الطبيعيين، لخوض الانتخابات موحدين. وحصدت تلك القائمة ثلاثة عشر مقعدا من مقاعد الكنيست المئة وعشرين، لتشكل بذلك الكتلة الثالثة في الكنيست، من حيث عدد الاعضاء، والثانية بين كتل المعارضة.
اعطى هذا الانجاز دفعة قوية لثقة تلك الجماهير بنفسها، وغذّى هذا الامر رصيد تلك القيادات. في هذا الجو من التفاؤل والامل، اصبح اسم القائد الشاب الواعد ايمن عودة، اسما معروفا ومؤثرا بشكل ايجابي واضح، في الوسط السياسي والاجتماعي اليهودي في اسرائيل، إلى درجة ان زوجة وزير سابق ومرشح جدي لقيادة حزب الليكود ووراثة نتنياهو، نشرت رأيها الصريح، وفحواه: ان ايمن عودة هو العدو الاخطر، لأنه يتصرف ويتحدث باسلوب وبشكل منطقي وعاقل، يمكن له ان يقنع الجيل الصاعد في اسرائيل بعكس ما يعمل عليه اليمين الاسرائيلي بنجاح منذ عقود.
ثم جاء تثبيت السيد مازن غنايم، رئيس بلدية سخنين، في منصب رئيس "اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس المحلية العربية في اسرائيل"، ليعزز هذا التوجه. ولحق بذلك انتخاب السيد محمد بركة رئيسا لـ "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في اسرائيل"، فاكتملت بذلك صورة لا سابق لها، في وضع ثلاثي مثالي على رأس هرم القيادات المنتخبة ديمقراطيا، لجماهير الفلسطينيين في اسرائيل.
على ان ما تلا ذلك من تطورات في الشارع الفلسطيني العربي في اسرائيل، لم يكن بحجم ما كان مأمولاً، وما كان ممكناً ايضا. وبرغم انني لا اريد التطرق بالتفصيل إلى اسباب ذلك التطور غير الايجابي، فانني اكتفي بالاشارة إلى ان عامِلَي مناكفات شخصية، وتسابق غير لائق على المايكرفونات وعدسات الكاميرات، من جهة، وحرص "أُم الولد"، (أي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ومناصريها الكثيرين من الوطنيين)، على وحدة الموقف، من جهة ثانية، قد أدّيا إلى الارتهان إلى "الحلقتين" الاضعف في "مركب الوحدة"، وهما الطرفان الاساسيان في تحمل مسؤولية التردي الذي شهدناه حتى الآن.
برغم ان الرصيد الكبير من "الاخطاء المسموحة" للتركيبة القيادية الجديدة للفلسطينيين في اسرائيل، يمكن له ان يتحمل نتائج تلك المناكفات الصغيرة والشخصية، إلا ان مدّ هذه المناكفات لتصل ولتغطي قضايا اساسية، تهُمُّ وتؤثر في واقع ومستقبل كامل قطاعات تلك الجماهير، والشباب منها على الاخص، تشكل تبذيرا غير مبرر من هذا الرصيد. هذه تصرفات تستدعي التنبيه اليها، على رؤوس الاشهاد، وقبل فوات الاوان.
وضعا للنقاط على الحروف، اقول: الفلسطيني، كل فلسطيني على الاطلاق، هو ضحية، بل هو الضحية بأل التعريف. والضحية لا تُسأل هي مع من، بل هي صاحبة الحق في ان تَسأل: من معي؟. لذلك فان أي تأييد او ادانة لاي طرف عربي في مواجهة أي طرف عربي آخر، هو موقف خاطئ، يجب تجنبه.
من هنا إلى التفاصيل:
ـ تتخذ دول عربية موقفا معلنا من "حزب الله" اللبناني، ذلك مسؤوليتها. لكن، لا مصلحة اطلاقا ان تنتصر الضحية الفلسطينية لهذا المعسكر او ذاك. اصدار بيان يحدد موقفا مؤيدا او مُدينا لأي من الطرفين العربيين ضد الطرف الآخر، هو قرار خاطئ، وهو صرف وتبذير من رصيد هذه القيادات.
ـ يطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مبادرة، ويوفد وزير خارجيته إلى اسرائيل للقاء نتنياهو، بعد انقطاع مسلسل اللقاءات لسنين عديدة. قد لا يكون الامر مدعاة لاحتفال. لكنه ليس بالقطع مبررا لادانة، ولتسبب بخطر قطيعة مع مصر. اصدار بيان ادانة للزيارة هو عمل خاطئ، وهو صرف وتبذير من رصيد تلك القيادات.
ـ يصدر رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتنياهو، شريطا مصورا باللغتين: العبرية والانكليزية، موجها، حسب لفظه، باللغة العربية،: "مواطنونا العرب الاعزاء"، يقول فيه كلاما ايجابيا. نتنياهو ليس جديرا بالثقة، وليس من الحكمة افتراض حسن النية لديه. ولكن، ما هو المانع من التروي والتفكير والدعوة إلى اجتماعات لدراسة "شريط" نتنياهو، والرد عليه، بل وتحديه بطلب وضع آليات لتطبيق ما حواه الشريط من توجهات ايجابية، بدل التسابق إلى نشر بيانات سلبية وغير مثمرة. ذلك تبذير من رصيد حساب تلك القيادات.
انتهاء رصيد "الاخطاء المسموحة"، يعني الاقتراب من بدء الصرف من حساب "الاخطاء غير المسموحة"، وسيدفع هذا جماهير الفلسطينيين في اسرائيل، إلى الكفر بهذه القيادات، والبحث عن بدائل لها. وهذا ما يجدر باصحاب العلاقة تجنبه.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني