هذه ملاحظات سريعة كتبتها تعقيبا على عشرات المقالات التي تناولت القصة القصيرة ، بعضها ذهب لشرح كيفية كتابة قصة قصيرة، مبناها ، أبطالها ، بدايتها، وسطها ونهايتها.. أي طرحوا شبلونات وبنود يمكن على أساسها كل من يعرف كتابة إنشاء ان يكتب قصة قصيرة. وأنا اعتقد أنها كتابات فائضة عن الضرورة وسلبياتها أكبر من ايجابياتها.
هل حقا توجد تقنيات يمكن الالتزام بها لكتابة القصة القصيرة؟ أي شبلونة (مسطرة) يمكن ان نكتب قصصا حسب مقاساتها؟
أصحاب تلك المقالات تجاهلوا مسألة جوهرية تتعلق بمفهوم لغة القصة القصيرة. طبعا هي اللغة العربية في حالتنا، لكنها لغة نص مختلف عن أي نص كتابي آخر. ما اعنيه انها ليست نفس التركيبة اللغوية للمقال السياسي مثلا، أو للمقال النقدي، أو للمقال البحثي. الشرح عن تركيبة القصة القصيرة يبدو لي انه يؤطر المضمون والحركة القصصية داخل صندوق مغلق ومفرغ من الهواء . أي كتابة "مخنوقة" تعطي نصا يفتقد للأوكسجين... للحياة.
ان لغة القصة هي موضوع لا يمكن تناوله بمثل هذه البساطة والفوقية التي يتناول فيها البعض شرح تركيبة القصة القصيرة ، وكأنه يشرح مسألة في الرياضيات، وأنا على ثقة ان تلك المقالات لم ولن تنتج كاتبا قصصيا واحدا، بل قد تضلل كتابا موعودين وتسحق موهبتهم.
المعضلة الكبيرة، أو الهوة الكبيرة لمثل هذه المقالات هي استحالة شرح تراكيب قصصية بمقاييس جاهزة، وخاصة استحالة شرح مضمون اللغة القصصية. مثلا هل بإمكان أحد ان يشرح مفهوم اللغة الدرامية التي هي لغة الإبداع القصصي الجوهرية؟ ان مفهوم الدراما (للتوضيح) ليس في الفكرة فقطـ إنما في تركيبة اللغة نفسها؟ لغة لها مركبات مميزة عن السرد النثري لمواضيع غير قصصية... لكن هذا لا يكفي. مثلا كاتب متمرس بإمكانه تطوير أساليب لغوية جديدة وأفكار قصصية غير تقليدية للنص القصصي وإبداع تكنيك وأسلوب عرض لم يسبق لأي كاتب ان مارسه. مثلا استعمال لغة الصحافة الأقرب للمناخ الثقافي السائد واللغة الأكثر فهما واستعمالا في حياتنا اليومية أو أسلوب بناء الحدث القصصي عن طريق مبنى الخبر الصحفي أو الريبورتاج (وهنا صعوبة كبيرة لدرجة الاستحالة لكاتب غير متمرس)، أو بأسلوب الكتابة التاريخية أو التوثيقية.. أو حتى إخضاع الطرفة لجعلها مادة قصصية... حتى السماء ليست حدودا لقدرات الإنسان الإبداعية!!
قد يقول ناقد ما مستهجنا ان هذا إسفاف لمضمون اللغة القصصية وأنا أقول ان الموضوع أبعد من التفكير الفوقي، والأحكام المتسرعة، لمن يعجزون هم أنفسهم ان يصيغوا قصة قصيرة رغم إجادتهم الكبيرة في شرح مركباتها.. طبعا شرحهم يعتمد مفاهيم القصة الكلاسيكية - التقليدية.. وهي مفاهيم واساليب تلاشت الى حد بعيد من السرد القصصي أو تقلصت مساحته أ مام التجارب الجديدة.
قرأت أبحاثا عديدة لكتاب أجانب أيضا.. ولا أظن انه يمكن إنتاج عمل قصصي حسب شبلونة تطرح بنودا يمكن على أساسها صياغة قصة قصيرة. مسبقا أقول ان القصة عملية خلق إبداعية لا تلتزم بإطار جاهز، القصة تخلق أسلوبها وتكنيكها ولغتها المميزة، ولا بد للكاتب من وعي سيكولوجية أبطاله وان يلم بمفاهيم أولية على الأقل لعلم النفس الاجتماعي، ليميز بين الأدوار التي يرسمها لأبطاله وتفاعلات هذه الأدوار.
البطل في العمل الأدبي ليس مجرد اسم وشكل، ثم نركب عليه تفاصيل متخيلة، أو نفتعل له عقدة ما .. ثم نجد له الحل أو اللاحل.. القصة هي الدمج بين الخيال والواقع، وكما قال الكاتب الروسي الكبير تشيخوف "هي كذبة متفق عليها بين الكاتب والقارئ" والكاتب المبدع يجعل الكذبة تحاذي الواقع وتتساوى معه.
لا أظن ان مؤلفي هذا النوع من النصوص يقصدون ما قد يفهم من العنوان.. ربما قصدهم شرح فكرتهم حول مركبات النص السردي القصصي... لا يوجد تماثل بين قصتين لنفس الكاتب إلا ما ندر.. فكيف الحال مع مئات الاف الكتاب؟ لا يوجد خط عريض واضح في حركة الإبداع لنفس الأديب.. الأمر يشبه هنا إنتاج حيوات، والحياة شديدة التعقيد والتركيب وعدم التماثل بين عنصرين.. تماما مثل بصمة الأصابع .. ربما أفضل طريقة لمعرفة فنون الكتابة القصصية، هي قراءة آلاف الأعمال الأدبية بانتباه كامل لأسلوب السرد ومركباته المتنوعة، شكل بناء الشخصيات وتطويرها ، خصوصية اللغة في العمل القصصي، (اللعبة القصصية أو الروائية) وطريقة بنائها والتلاعب بالأحداث ، روح الحوار وعلاقته بالشخص، ومطابقة الحوار للشخصية القصصية (أو الروائية) وغير ذلك الكثير من التجديدات التي لا تتوقف ، صياغة وفكرا ... وقراءة تجارب الكتاب أنفسهم إذا وجدت.
لا يمكن ان تصاغ مفاهيم ثابتة للقصة القصيرة أو لأي عمل أدبي. يمكن حث الموهوبين للإطلاع عبر تمهيد يعرض عليهم مركبات أولية، لكنها مجرد خطوات أولى لا يمكن جعلها قانونا قصصيا.
الأمر الأساسي ان الكتابة، أي كتابة كانت... تحتاج إلى موهبة خاصة.. يمكن تطوير الموهبة.. بدونها لا يمكن تحريك شيء.. لا يمكن ان تتطور الموهبة بدون قراءة واعية وموسوعية، واطلاع واسع على العديد من كتب النقد القصصي ، والانتباه ان بعضها يشوه الرؤية القصصية إذا لم يكن القارئ واعيا لفلسفة الأدب تحديدا والقصة القصيرة عموما .
نصيحتي لعشاق الابداع القصصي بسيطة جدا.. اقرؤوا بوعي وعبر دراسة النصوص وتحليلها الذاتي. أسلوب تركيب الحدث، مميزات النص، تركيبته اللغوية، الحوار ومطابقته للشخصيات ، انتبهوا إلى الدراما في لغة النص وليس الدراما في الفكرة القصصية فقط. نص بدون لغة درامية ، هو نص فاشل. الفكرة الدرامية ليست مشكلة، احيانا الفكرة القصصية بلا دراما لكن اللغة القصصية تصنع الدراما.
نبيل عودة