تل الزعتر سيبقى عنوان مأساة اللجوء

بقلم: عباس الجمعة

تل الزعتر سيبقى عنوان مأساة اللجوء وهو محطة من محطات كثيرة في تاريخ اللجوء الفلسطيني التي لم تحظ بالبحث والتوثيق الكافيين لحفظها، ولو حاولنا مقارنة مجزرة تل الزعتر بسواها من المجازر لوجدنا، إضافة الى الأهداف والمنفذين، سمة مشتركة أخرى بينها وهي "الافلات من العقاب"، وعندما يمر المرء بالطريق العام المحاذي لتل الزعتر اليوم فلا شيء يدل على وجود حياة سابقة هناك، منطقة وعرة تنتشر فيها بعض المصانع وصمت ورهبة يطبقان على المكان، هنا سفكت دماء بريئة ببرودة أعصاب، واغتصبت نساء وأذل الشيوخ وقتل الشباب على مرأى من اهلهم وأبنائهم، ولا يزال المجرمون طلقاء يجولون بيننا.

في 12 آب 1976 تحوّل تل الزعتر الى أسطورة تتناقلها المخيمات كلها، هكذا اراد الكيان الصهيوني من خلال عملائه ضرب نمو ظاهرة الثورة الفلسطينية من خلال تفجير الحرب الأهلية والصراع اللبناني فلا يمكن أي شخص ان يغفل التناقضات الحادة التي كانت قائمة بين الحركة الوطنية اللبنانية، والسلطة اللبنانية انذاك والتحالفات المحيطة بها، وبعض الأطراف الأخرى،حيث اقدمت القوى الانعزالية على الهجوم على باص كان يحمل عدد كبير من المواطنين اتى بعد انتهاء المهرجان المركزي في الذكرى السنوية الاولى لعملية الخالصة البطولية الذي اقيم في مخيم تل الزعتر في عين الرمانة، وكانت هذه التناقضات تملي علي الثورة الفلسطينية الوقوف الى جانب الحركة الوطنية اللبنانية لاعتبارات عدة، حيث وجدنا أنفسنا في دوامة الصراع الذي لم نكن نرغب في ان يأخذ هذا المنحى الذي أخذه، الا ان هناك مخططا مرسوما من قبل القوى المعادية للثورة لضربها وتصفية الحركة الوطنية اللبنانية.

ونحن اليوم تعود بنا الحقيقة ان مجازر تل الزعتر وحملات الابادة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني فيه ولدت لدي ألما كبيراً جداً، خصوصا على الصعيد الانساني والأخلاقي العام، فلم نتصور ان يصل الانحطاط الأخلاقي والانساني الى هذه الدرجة من الاجرام والفاشية، وبعد سقوط المخيم دخلت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية في معركة عنيفة كانت تستهدف تصفية الثورة الفلسطينية وتجلى القائد العربي الكبير كمال جنبلاط اذ كانت عملية اغتياله تحمل الكثير من الدلائل السياسية، لأن كمال جنبلاط كان قائداً لبنانياً وقائداً عربياً كبيراً، وكان الوحيد القادر على قيادة لبنان العربي المنشود، الا ان زيارة السادات الى القدس في ذاك الحين أحدثت متغيرات كبيرة في المنطقة ودفعت بعض القوى الى اعادة النظر في حساباتها السياسية، فكان ان دخلت الحرب في لبنان منحى آخر مع استمرار الجوهر وتبدل التحالفات الداخلية والخارجية.

حكاية مخيم تل الزعتر، تروي السطور المأساوية من حياة وكفاح الشعب العربي الفلسطيني، وفلسطينيي لبنان على وجه التحديد الذين لاقوا الهوان والذل والحرمان منذ أن وطأت أقدامهم أرض لبنان عام النكبة، كما تروي في جانبها الآخر صفحة مجيدة من تاريخ الشعب الفلسطيني، وكفاحه الوطني، وبطولة سكان المخيم الذين صنعوا أسطورة حية تلهم أمة بكاملها على مدى الأجيال القادمة، حيث صمد ابناء الشعبين الشقيقين الفلسطيني واللبناني الذين كانوا يسكنون في المخيم ، وقاتلوا ببسالة منقطعة النظير دفاعًا عن أرواح الناس من النساء والأطفال والشيوخ

وكبار السن، ومع كل هذا صمد تل الزعتر صموداً أسطورياً لمدة 3 شهور كاملة، رغم أن الموت كان مزروعاً في كل الدروب، ويشهد لأطباء تل الزعتر الذين كان دوائهم وعلاجهم للمرضى (بالماء والملح)، وأجبر الأهالي والمقاتلين على إخلاء المخيم بتاريخ 12/8/1976، فلم يستسلم المقاتلون واستمروا بالقتال حتى إخلاء المخيم من الأهالي ومن ثم شقوا طريقهم الصعب والمميت عبر الجبال.

ومن هنا انتهى حصار تل الزعتر بكارثة إنسانية لم يسبق لها مثيل، رغم الوعود لوجهاء المخيم، خرج الأهالي من الملاجيء وسلموا أنفسهم لترحيلهم، وهنا بدأت أكبر المجازر في التاريخ المعاصر، حيث أباح (الفاشيست) لأنفسهم حق إعدام كل من وجدوه داخل المخيم، واستمروا ذبحاً وقتلاً دون تمييز بين رجل أو امرأة أو شيخ أو طفل، أما الفتيات الجميلات فقاموا باغتصابهن أمام أهاليهن، فحطموا البقية الباقية من قلوب الرجال، وبعد ذلك انهالوا عليهم قتلاً وذبحاً ، من أبشع المناظر على مر التاريخ، وكذلك قاموا ببقر بطون الحوامل والتنكيل بالجثث ورسم الصليب بالنار على الجثث، وطلبوا من الأمهات قطع رؤوس أولادهن، حيث غلت دماء الأمومة وانفجرت لتسقط على درب الشهادة التي هي أرحم مما أمرن بالقيام به ألف مرة.

وفي ظل هذه الظروف مرت الثورة الفلسطينية بالكثير من المحطات المؤلمة والجروح النازفة، وخاصة مجازر تل الزعتر وحملات الابادة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني واللبناني الذي يقطن فيه، حيث ولدت ألما كبيراً جداً، خصوصا على الصعيد الانساني والأخلاقي العام، فلم نتصور ان يصل الانحطاط الأخلاقي والانساني الى هذه الدرجة من الاجرام والفاشية، كما ترك سقوط تل الزعتر

على الصعيد السياسي العام، فكان لمخيم تل الزعتر تاثير مباشر على على الوضع الفلسطيني ،حيث دخلت القوى الفلسطينية في معركة كبيرة كانت تستهدف تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان،وادى سقوط تل الزعتر الى انشقاق داخل الجبهة الشعبية القيادة العامة انذاك حيث خرجت قوى أرادت الخروج عن توجهات الجبهة ، فوقفت أغلبية قيادتها المركزية وكوادرها ومقاتليها بقيادة الشهيد القائد ابو العباس الى جانب شعبنا الفلسطيني في تل الزعتر حيث استعادت اسمها الاول جبهة التحرير الفلسطينية ، ورغم سقوط تل الزعتر، استمرت المحاولات الهادفة لتصفية المقاومة والحركة الوطنية في لبنان ، حيث لم يوقفها سوى زيارة السادات القدس التي أحدثت متغيرات كبيرة في المنطقة ودفعت بعض القوى الى اعادة النظر في حساباتها السياسية، فكان ان دخلت الحرب في لبنان منحى آخر مع استمرار الجوهر وتبدل التحالفات الداخلية والخارجية.

وفي طبيعة الحال ، لم يبقى من تلك الحرب الأهلية البغيضة إلاّ شواهد قليلة في هذه المنطقة وتلك، شواهد تحكي عن أيام صعبة وقاسية عاشها الشعب الفلسطيني بين أسنان القذائف والصواريخ• ولم يبقى اي من الأبنية التي تكون عليها آثار الحرب والرصاص الذي نخر جدران الحيطان والبيوت، اقول شواهد قليلة بعد أن أسدلت عملية إعادة الإعمار الستار عن فصول هذه الحروب التي لها تاريخاً ، لكن يبقى هناك شهود شهداء وأحياء انخرطوا في هذه الحرب الاهلية في أعمار مبكرة، فمنهم من بقي ومنهم من رحل، شهود اختلفت آراءهم وميولهم

فتخندقوا على خطوط التماس وفي الأزقة والشوارع يتقاتلون ويتبادلون القصف والرصاص حتى أصبحت عبرة في العالم.

وبعد هذه الحرب وزيارة السادات وما اسفرت عنه ، كان الاجتياح الصهيوني للجنوب عام 1978، حيث تصدت القوات المشتركة الفلسطينية واللبنانية للعدوان الاسرائيلي ،وتمكنت القوات المشتركة من الصمود والتصدي لهذا الاجتياح ، ودخلت منطقة الجنوب اللبناني في دوامة المعارك مع العدو الصهيوني ، وفي ظل هذه الاوضاع اتى الغزو الصهيوني للبنان صيف عام 1982، حيث كان أداء المقاومة في مواجهة الاجتياح كان متفاوتاً رغم المواقف المشرفة في الجنوب وفي بيروت صمود اسطوري ، وخاض خلالها المقاتل الفلسطيني واللبناني قتالاً بطولياً ومشرفاً، وكان مثالاً للتضحية والتفاني، ولو كانت المقاومة في الجنوب منظمة لتغيرت النتائج بعض الشيء، لتوقف الغزو على الاندفاع وتوسيع رقعة الاجتياح باتجاه بيروت والجبل، حيث شكلت معركة بيروت صفحة مشرفة في تاريخ الثورة الفلسطينية والأمة العربية، ولا يمكن أي قائد فلسطيني ان يتجاهل التضحيات الكبيرة والجسيمة التي دفعها الشعبين الشقيقين الفلسطيني واللبناني ثمناً لهذا الصمود.

ختاما : لا بد من القول، لا يمكن ان ننسى ذكرى استشهاد مخيم تل الزعتر وقوافل الشهداء والمفقودين والجرحى ، لذلك لقد تمكنت الثورة من عمل الكثير، وفي مقدمته صون الهوية الوطنية ومجابهة الاحتلال والتمثيل المستقل لشعبنا الفلسطيني ، كل ذلك هو نتيجة تضحيات نضال الشعب الفلسطيني وصموده ، فعلينا ان نعمل على احياء ذكرى مجزرة تل الزعتر مخيم الوفاء والشهادة والصمود والتضحية، حتى نتمكن ان نحافظ على الثورة ومنجزاتها الوطنية ، بالوحدة الوطنية ضمن اطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد ،وبرنامجها الوطني بالعودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس ، فبدون الوحدة الوطنية ومجابهة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة، من الصعب جداً الوفاء للذين لهم دين في أعناقنا الا وهو تحرير الارض والانسان .

بقلم/ عباس الجمعة