في كل مرة اقف امام زمن النضال الجميل، حيث أختزن طاقة هائلة من التفاؤل والإيمان بمستقبل شعبنا وامتنا المشرق، لأن الحديث يملأ القلب والنفس بهجة وارتياحا وأملا كبيرا.. ولكن نحن تعودنا دوما أن نعتبر ان العلاقات تبدأ عندما تنهار الحواجز التي تجزيء اوضاعنا وعندما تحطم العوائق والقيود التي تكبل جماهير شعبنا ، عندئذ يكون الإنجاز العظيم.. الانجاز التاريخي الذي لا نرى الآن إلا دلائل وتباشير تنم عنه ولكن لا تحتويه كله.
نحن نتتوق إلى اليوم الذي نعطي شعبنا دوره في ادارة شؤونه ، باعتبار ان شعبنا هو صاحب المصلحة العليا في اي انجازات تتحقق بما يتاح الى القدرات والكفاءات الايجابية تزدهر وتتحقق،فشعبنا قدم التضحيات وهو ما زال مستمر في نضاله وتضحياته وعذاباته ، وهذا ما يتلج الصدور والنفوس والضمائر ، وجيل الشباب اليوم هو من يتحمل متابعة الطريق حتى يحفظ المسيرة ويتحمل المسؤولية، من اجل المستقبل الزاهر الجدير بشعبه وبمكانته وبعبقريته، لان بذلك نضع التجربة الإنسانية العميقة التي يكتسبها المناضل في أيام المحن والشدائد ، فهذه التجربة تميزه عندما يستلم المسؤوليات في زمن النضال ، ومن هنا اقول عليه ان يتسلح بالأخلاق ، فالمناضل هو الذي يجسد في أفكاره وفي سلوكه وفي أخلاقه وفي مسيرته وتطوره ونضجه، التفاعل بين الفكر والواقع لكي يجعل من تجربتنا الثورية ، التجربة الثمينة التي هي خلاصة تجارب نضالنا الوطني، أملنا وطموحنا بأن تغتني هذه التجربة وان ترتوي بدروس الماضي وعبره، أن تكون التجربة التي لا تجربة في مستواها، أن تصبح مركز استقطاب، لأن جماهير شعبنا بحاجة ماسة، بافتقار كبير، بشوق شديد إلى الضوء الهادي الذي يدل على الطريق ويتقدم الطريق، لذلك ما كنا لنطمح بأن تكون التجربة هكذا أو أن نحلم بأن تكون هكذا لو لم تكن بالفعل قد حققت شروطا كثيرة من الذي نطلبه ، ومن هذا الذي نحلم به، فهي بمسيرتها وبإنجازاتها وبالروح التي تلهمها وتسيرها استحقت أن نضع فيها ثقتنا وأملنا، إذن لا نحلم أحلاما مجانية ولا نطلب اعتباطا وإنما على أساس متين من الواقع، هذه التجربة سيكون لها بدايات مشرقة قوية.
من هنا علينا السعي دائما الى استنهاض طاقات شعبنا ، وان نبني على تفكيره وتصوره على أساس أن الطريق طويل وان علينا أن نمشي وان نحقق شيئين متناقضين في آن واحد، اختصار الزمن الذي هو ميزة الثورة، واحترام المسيرة النضالية بحيث تتفاعل مع الواقع وتصبح قادرة على التأثير في المجتمع ، ولكن لا يجوز لنا أن نقفز من فوق المراحل الضرورية لبناء الإنسان المناضل، وبناء الهيئات والمؤسسات بكل ما يتطلبه بناؤها من فكر ومن تنظيم ومن ممارسة، وحتى لا يكون سيرنا اعتباطيا وسطحيا ينهار من أول صدمة، ولن نثير في نفوس الشباب شهوة الوصول، الوصول القريب، وإنما نمتحن الصلابة والصمود وعمق الايمان وخصب الحيوية في الشباب ، عندما نضع له أهدافا صعبة بعيدة المنال، ولن نجمّع الناس تجميعا، وهكذا نختصر الزمن لأن اي هيئة او مؤسسة يتم بنائها بشكل سريع قد تنهار ، ولكن اذا بنينا الهيئة بشكل صحيح فستكون سائرة وتكسب ثباتا ونضجا مع الأيام.
ومن هنا نؤكد على قواعد للسلوك الانساني مع الشعب وهذا يعزز من العلاقات الاجتماعية في مرحلة التحرر الوطني ، لأن العلاقة مع الشعب تعطي جديتها في قضية التحرير، حيث ان تجاهل الجماهير وعدم اعطائها الدور والاهمية التي تشكلها في المسيرة الثورية، يجعل من نضالنا تجمعا نوعيا ،وتكون تصرفاته معزولة وغير مقبولة من الشعب.
لذا فاننا نرى إن التجديد لن يحدث إذا لم ترافقه حركة نهضوية نضالية تهدف إلى التطوير المجتمعي والتطوير الفكري، والتطرق إلى ما يعيق ذلك بشجاعة، حتى ولو بدا للوهلة الأولى أن ذلك سيثير غرائز الكثير من الناس، لأن مسألة الفكر النهضوي الذي هو أساس تجديد الحركة السياسية، يجب أن يبنى على أرضية ترفض التسليم بالحقائق المطلقة، ترفض جعل كل شيء رهن عالم الغيب، هذه الأفكار النهضوية يجب أن تكون مؤسسة على أرضية ديمقراطية أيضاً.. حرية الرأي وتباين الأفكار، والتصدي لموجات التكفير والتفكيك، وذلك عبر التنوير والفكر والكلمة، هذا يؤسس لتجديد الحركة السياسية ، تلك الحركة التي ستكون قادرة على وضع مشروعها بكل امتداداته وإلا سنبقى نعيش بسلسلة من الأحاديث التي لا تنتهي دون أن نخرج بأية نتائج إيجابية وخاصة على المستوى العربي والفلسطيني، فنحن بحاجة الى حركة سياسية قادرة على وضع مشروع الفكر النهضوي ، يلامس كل مناحي الحياة، ويقوم على أرضية ديمقراطية حرة يبتعد عن الإنشاء، ويتعامل مع الوقائع، ذلك ما تتطلبه المرحلة،لأن بهذا الفكر نواجه الإرهاب، وحالة التيئيس وتعميق دوافع الإحباط ومظاهره لدى الناس.
ان مرحلة التحرر الوطني التي نخوضها تنطلق من موقف مبدئي، وهو ان قضيتنا هي قضية الجماهير وليست قضية فئة مميزة منفصلة عن هذه الجماهير، وان الشعب قادر على ممارسة النضال بكفاءة عالية وحس صادق وعزيمة قوية، وهو القائد الحقيقي للثورة والحامي المخلص لمسيرة النضال ، ولهذا يجب على كافة الفصائل والقوى ان تبقى على تماس مباشر مع الجماهير، تعيش بينها وتحس مشاعرها وتستلم تطلعاتها، وهي لذلك مصدر السلطات في مسار نضالنا الوطني والوصية الوحيدة الامينة عليه، وهي القوة الحقيقية التي يعود اليها وحدها حق اتخاذ المقررات الحاسمة، وعليها تقع مسؤولية انتخاب الهيئات في جميع المستويات.
لذلك نقول ان قواعد المسلكية الثورية في المجال الجماهيري يمكن تلخيصها بضرورة التوجه الصادق الدائم للجماهير وتعميق العلاقة بينها وبين الفصائل والقوى والهيئات واللجان الشعبية والاتحادات وترسيخ الايمان، بأن هدف نضالها هو مصلحة الجماهير، وانه بالجماهير وحدها تستطيع المسلكية الثورية في المجال الجماهيري، ان تحقق النصر.
واليوم نحن نرى طليعة النضال يخوضون اضرابهم عن الطعام انهم اسرى الحرية ومعهم العديد من المناضلين العرب واحرار العالم يتضامنون ، حيث نرى احترام الجماهير للحركة الاسيرة ونضالها .
ان الجماهير لا يمكن ان تحترم الذين يتجاوزوها مهما كانت الانتصارات التي تحققت على أيديهم، ولكن الحقيقة التاريخية تؤكد، ان الذين يتجاوزوا الجماهير لا يمكن ان يحققوا أي انتصار حقيقي، لأن قاعدة احترام الجماهير تحتم على اي مناضل يتحمل المسؤولية ان يعبر عن احترامه للجماهير بالممارسات اليومية، فهو مطالب باحترام تقاليد الجماهير وعاداتها والاستماع الى آرائها والاخذ بها، ولا يجوز لاي انسان ان يفرض آرائه على الجماهير اذا ما تعارضت مع المفاهيم السائدة قبل ان يمهد لها بنضال طويل وشاق.
ولهذا ارى ان أجيال الشباب الصاعدة والمتتالية لن تحتاج إلى من يلقّنها ما يجب أن تفعله، فليس من حق أحد، فرداً أو حزباً، أن يصادر حقها في تحديد طموحاتها وأهدافها مسبقاً، هذه حقيقة، لكن تقف إلى جانبها حقيقة لا تقل أهمية، وهي أن حياة الأمم والشعوب وتاريخها ومستقبلها ، بحاجة الى وقفة التأمل الايجابي بدون أية رتوش أو زيف، بعيداً كل البعد عن الاستخفاف أو المكابرة، حتى تنطلق من نبضات قلب الجماهير وحركتها الصاعدة في إطار الحراك السياسي الاجتماعي العام، الوطني والديمقراطي على الصعيد الفلسطيني الارتباط العضوي الوثيق بالمشروع التقدمي القومي العربي، من اجل تقدم المشروع الوطني الفلسطيني .
ونحن نتطلع الى الانتخابات المحلية نطالب جميع القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية توحيد جهودها في هذا الاستحقاق بما يضمن تمثيل كل القوى السياسية حسب قوتها بالشارع الفلسطيني حتى يشكل ذلك مقدمة مهمة للذهاب للانتخابات التشريعية والرئاسية، وحتى تشكل هذه الانتخابات مخرجًا لانهاء حالة الانقسام الفلسطيني ، كل ذلك يتوقف على مدى وعي الجمهور الفلسطيني والقوى السياسية الفلسطينية، بضرورة عدم تكرار تجارب الماضي.
ان الشباب اليوم يحاول ان يقوم بواجبه بصورة جيدة، رغم انه قادر ان يعمل أن يعمل أفضل، وأن يعطي أفضل، من خلال تخطى بعض الأخطاء ، وهذا يستدعي من الفصائل والقوى تحمل المسؤولية ، فالشعب الفلسطيني في الوطن والشتات بحاجة الى الوحدة، وبحاجة الى المؤسسات ، وبحاجة الى لجان شعبية قوية ، وهدفه فلسطين ، فلا نجعل من خلافاتنا وصراعاتنا الداخلية مجالاً لانتصار الآخر علينا .
وفي ظل هذه الظروف التي نعيشها فعلى كل مناضل ان يثور من اجل خدمة الجماهير، وانه لا يستطيع ان يحقق للجماهير طموحها دون ان يجعلها تتحمل المسؤولية الاساسية في النضال، باعتبار الجماهير شعبنا صنعت الثورة وقدمت التضحيات ، وهي من انجبت القيادة التي تولت المهمات العظيمة للثورة، هذه الجماهير ما زالت متمسكة بخيار الانتفاضة والمقاومة طريقا وحيدا لطرد العدو وتحرير الارض والانسان ، ولهذا نقول للجميع عليكم الاعتماد على الجماهير كقاعدة اساسية من مسيرة النضال، تحتم العمل على انهاء الانقسام الكارثي وتعزيز الوحدة الوطنية باعتبارها قوة قادرة على انجاز المهام المطلوبة بقدرة وفعالية.
ختاما : لا بد من القول ، نحن بحاجة ماسة لاستنهاض طاقات شعبنا ، ونحن بحاجة الى استراتيجية وطنية نرسم من خلالها المنطلقات في المرحلة النضالية الراهنة الى جانب الاهداف الاستراتيجية والاهداف التكتيكية المرحلية واسلوب ووسائل تحقيق كل منها، وتصحيح الافكار الخاطئة، فالخط الصحيح ينبع في الاصل من ثقة الجماهير وقدرتها على استمرار النضال.
بقلم/ عباس الجمعة