الإنتخابات الفلسطينية المأمول والمحظور!

بقلم: جبريل عودة

الإنتخابات هي وسيلة للإختيار ,تفتح أبواب من التنافس الشديد , بين مكونات المجتمع الواحد ,ولعلها تتسبب بالفرقة والتناحر في الحالات التي لم يتشرب فيها أفراد وأحزاب المجتمع, فكرة تداول السلطة عبر صناديق الإقتراع , حيث شكلت نتيجة الإنتخابات في بعض التجارب القنبلة الموقوتة التي إنفجرت في قلب المجتمع , وتسببت في أضرار كارثية , وقفت أمامها المجتمع المنكوبة أعوام طويلة , من أجل أن التعافي من أثاره التجربة الإنتخابية الفاشلة , الا أن هذا النموذج السيء لا يمكن تعميمه على إطلاقه , عند الحديث عن هذه الوسيلة الديمقراطية , المتداولة في معظم المجتمعات المتحضرة بسلاسة وبدون إشكاليات , والتي تسمح لكل فرد من أفراد المجتمع أن يعطي رأيه , في كافة البرامج السياسية والإجتماعية والخدماتية المطروحة للتنافس ويختار منها ما يراه مناسباً, ويقع أي إرباك في المجتمع بعد ممارسة العملية الإنتخابية إلى غياب الوعي الكافي بفكرة تداول السلطة وتنوع البرامج لتفشي العصبية الحزبية المقيتة , فالإنتخابات وسيلة من النظام الديمقراطي القائم على التعددية , وإذ لم تتأصل هذه الثقافة وتتجذر في المجتمع , فإن العملية الإنتخابية قد تكون بمثابة الخطر الداهم الذي يضرب وحدة المجتمع وإستقراره , أو تشكل وسيلة لشرعنة السلطات الديكتاتورية عبر إنتخابات مزورة , يتم إخراجها شكلياً لأغراض تتنافي مع روح العملية الديمقراطية , ولعل هذا النموذج هو الغالب في مجتمعاتنا للأسف الشديد .
في حالتنا الفلسطينية إنعقدت الإنتخابات الرئاسية والتشريعية في عام 1996م , من أجل إستكمال هيئات السلطة الفلسطينية الوليدة في الضفة الغربية وقطاع غزة , وكانت أقرب إلى الإنتخابات الشكلية في غياب التنافس الحقيقي, وسط مقاطعة كافة الأحزاب والفصائل الفلسطينية الرئيسية , وتم إختيار رئيس السلطة وأعضاء المجلس التشريعي , وسيطر حزب السلطة "فتح" على سلطات الحكم الثلاثة في إنفراد تام بالسلطة وأدواتها لمدة تسعة أعوام , وصولاً إلى حالة شغور منصب رئيس السلطة الفلسطينية بإغتيال الرئيس ياسر عرفات رحمه الله , وهنا كانت التجربة الإنتخابية الثانية التي عاشها الفلسطينيين في مدن الضفة وقطاع غزة , تم خلالها إختيار الرئيس محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية , بدون منافسة حقيقية لرغبة من الفصائل والأحزاب الفلسطينية في حينه , بعدم المشاركة في الإنتخابات الرئاسية , ولعل الإنتخابات المحلية عام 2005م والتي جرت على مراحل في الضفة الغربية وقطاع غزة , شكلت حالة من التنافس الشديد لمشاركة مختلف الفصائل الفلسطينية فيها , وخلالها سُجلت الهزيمة الأولى لحزب السلطة "فتح" , وبرزت في هذه الإنتخابات مؤشرات عدم القبول بنتائج الإقتراع لذا حزب السلطة , ولقد تم تقديم الطعون في نتائج أغلب البلديات بدعوى وقوع عمليات تزوير والتشكيك بنتائجها, رغم إشراف لجنة الإنتخابات ورقابة الفصائل الفلسطينية وهيئات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية على سير العملية الإنتخابية , وشاهدنا كيف تم تأجيل تسليم الكثير من البلديات للقوائم الفائزة , وألقت هذه الأجواء السلبية حالة من الكآبة على التجربة الإنتخابية , الا أن الإنتخابات الأشد منافسة وكان من ثمارها الإنقسام السياسي الفلسطيني الحاد ,هي الإنتخابات التشريعية في يناير 2006م , مُنيّ حزب السلطة فيها بالهزيمة الكبري ,والتي أصابته في كبريائه وأسقطت عنه الشرعية السياسية لقيادة وتمثيل الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة , وكان واضحاً لكل المتابعين بأن حركة فتح لم تقبل بالنتائج ولم تسلم بها , حيث أقدمت على كثير من الممارسات والإجراءات في سبيل تحجيم دور الحزب الفائز , وتقويض أدوات السلطة السياسية والإعلامية والأمنية والتي من المفترض أن يمسك بها الحزب الفائز , بين ليلة وضحاها تم سحب الكثير من الصلاحيات من الحكومة العاشرة لصالح مؤسسة الرئاسة , ووضعت العراقيل الإدارية والقانونية في وجه الحكومة المنتخبة ,وكل هذه الإجراءات وغيرها والتي لا نريد الإستفاضة في ذكرها وشرحها ,شكلت ردة واضحة عن المسار الديمقراطي والمسلك الإنتخابي, ولعل العجيب حالة عدم الدفاع عن إختيار الشعب وما أفرزته الصناديق , سواء من الرئيس أو الأحزاب والفصائل الفلسطينية , وليس جزافاً أن نقول بأن الكل الفلسطيني مؤسسات وأحزاب ساهم في إفشال التجربة الديمقراطية الإنتخابية في فلسطين , قد يكون لذا البعض أسباب فكرية وأيدلوجية وسياسية, يسوقها في تسويق رفضه أو عدم تقبله لخيار الشعب في الإنتخابات التشريعية عام 2006م , الا أن خسارته في جولة إنتخابية أقل بكثير من خسارة التجربة الديمقراطية في فلسطين , فطالما تم تعزيز ثقافة تداول السلطة وتقبل نتائج الصندوق فلا خوف من تسلط أو خشية من ديكتاتورية أو إنفراد بالسلطة , فمن جاء بالصندوق يغادر بالصندوق وقد يعود مرة أخرى بالصندوق , في تجربة راقية الرابح فيها المجموع الفلسطيني بلا استثناء .
وفي أجواء الحديث عن الإنتخابات المحلية المزمع عقدها في أوائل شهر أكتوبر القادم , لا يخجل البعض أن يتحدث عن الضغوط الدولية (الأوربية والأمريكية والإسرائيلية) على السلطة من أجل إجراء الإنتخابات المحلية , فهل الإنتخابات هي مطلب خارجي ؟ وهل تقبل الخارج نتائج الإنتخابات السابقة ؟ حتى يرى من الضروري عقدها من جديد , أم أنه يريد أن يتحقق من نتائج حصاره على الخيارات الجماهيرية في الإنتخابات الأخيرة , الإنتخابات هي حاجة فلسطينية من أجل ترتيب الوضع الداخلي , نسعى من خلالها إلى ضخ دماء جديدة , وإمداد المجتمع بالكفاءات العلمية وخاصة الشبابية في الدوائر والمؤسسة العامة من أجل الخدمة للمجتمع الفلسطيني وتطويره , وأي فهم غير ذلك للإنتخابات والمراد منها لا يخدم ولا يصب في مصلحة الفلسطينيين .
ويروج البعض أن الإنتخابات مدخلاً إلى إنهاء الإنقسام , ويغفل عن ضرورة تهيئة الظروف والمناخات اللازمة لأجراء الإنتخابات , ونستحضر هنا السؤال الحاضر في أذهان الجميع, إذن كيف كانت الإنتخابات البوابة الكبرى لولوجنا الإنقسام ؟!, السبب بكل بساطة حالة عدم النضوج التي تعيشها الحالة السياسية الفلسطينية العامة , وفي المقدمة من ذلك القيادات والنخب السياسية التي تعادي أبجديات الديمقراطية المتمثلة بعدم قبولها نتائج صناديق الإقتراع , بل تعتبر أن الإنتخابات النزيهة هي التي تأتي بمرشحيها إلى السلطة , والا فإن الإنقلاب على نتائجها هو الخيار الأوحد لمواجهة الخسارة , ولم يخطر ببالهم تصحيح برامجهم , وتجديد خطابهم لجولة أخرى من المنافسة , معيار الفوز فيها حيازة ثقة الجمهور , عبر جدارة البرنامج وتحقيق المصالح العليا للشعب والحفاظ عليها .
ولهذا أعتقد بأن الإنتخابات يجب أن تأتي بعد إنهاء الإنقسام الفلسطيني وإزالة أثاره كلياً , وإتمام توحيد المؤسسات الفلسطينية , وإعادة هيكلية منظمة التحرير البيت الفلسطيني الجامع , وإقرار البرنامج السياسي الفلسطيني الموحد " وثيقة الأسرى مقترح توافقي" , يتضمن الحفاظ على القواسم المشتركة فلسطينياً , وتعزيز روح التنافس السياسي الشريف بعيداً عن التناحر الحزبي , وترسيخ مفاهيم الوحدة الوطنية في نفوس الأتباع والمناصرين عبر ميثاق إعلامي ينبذ التراشق والتلاسن , ويعزز إحترام الأخر وقبول الرأي المخالف , والتأكيد أن الإختلاف السياسي لا يعني العداء وإعلان الحرب ضد بعضنا البعض , ولتسود بين أحزابنا ثقافة كما أسعى أن أكون اليوم في الحكم , يجب أن أتقبل أن أكون غدا في المعارضة , وأن تكون معارضتي شريفة منتمية للوطن ومصالح الشعب , وأن ندافع جميعاً عن الخيار الإنتخابي ونتائجه والا فأن الإنتخابات القادمة ستكون كسابقاتها من حيث التأثيرات السلبية والمآلات المؤسفة.


بقلم : جبريل عوده *
كاتب وباحث فلسطيني
18/8/2016م