ما جرى خلال الأيام الماضية في مدينة نابلس يثير القلق ، سواء من حيث التوقيت أو حجم وخطورة الأحداث . توصيف الأجهزة الأمنية بأن ما يجري مجرد حملة ضد خارجين عن القانون من لصوص ومهربين لا يعبر في رأينا عن حقيقة ما يجري ، وربما الحكومة والأجهزة الأمنية يتحفظون في الحديث عن الحقيقة حفاظا على السلم الأهلي الداخلي والعلاقة مع دول جوار ورغبة منهم في عدم توتير الأوضاع أكثر .
بالرغم من أن السيد الرئيس أبو مازن تدخل في الموضوع وخفف من حدة الاحتقان في نابلس إلا أن الموضوع في رأينا لم ينتهي بعد ، لأن الأمر أكبر من خلافات شخصية بين قيادات فتحاوية أو خلافات عائلية . سقوط 4 قتلى وعدد من الجرحى وتصريح الناطق باسم الأجهزة الأمنية اللواء الضميري أمس الأحد - 21 أغسطس - عن وجود ذخيرة ومتفجرات وقاذفات صاروخية في صناديق خاصة بالأسلحة ومكتوب عليها بالعبري ، وكون الأحداث التي جرت في نابلس الأسبوع الماضي ليست الأولى بل سبقتها أحداث مشابهة في نفس المدينة وفي جنين وطولكرم وفي مخيمات متعددة ، كل ذلك يقتضي مزيدا من اليقظة والتعامل العقلاني ووضع الأمور في سياقها الصحيح والذي يتجاوز كونها مجرد حملة أمنية ضد مجرمين عاديين .
لا نريد أن ندافع عن الأجهزة الأمنية أو عن اداء الحكومة أو نغوص في التفاصيل والبحث عن الأسباب المباشرة التي أدت لتراكم الاحتقان لدرجة الوصول لحد الانفجار ، وندرك ونتفهم حالة الغضب من بعض قيادات ومنتسبي حركة فتح وبعض العائلات من ممارسات الحكومة ، أيضا نستشعر وجود حالة من التنافس والخلاف بين قيادات حركة فتح نفسها ، كما أننا ضد تكميم الأفواه واعتقال الناس على خلفية حرية الرأي والتعبير ، ولكن ....
أن يتزامن هذا الارتفاع في حدة المواجهة مع الأجهزة الأمنية وارتفاع الأصوات المُنددة بممارسات الحكومة والمشككة بسياسياتها والتحريض عليها ، أن يتزامن ذلك مع تصريحات ليبرمان وقبله نتنياهو حول نهاية وظيفة السلطة ورئيسها ، وتهديدهما بتجاوز السلطة والتعامل مع جماعات من خارج السلطة أو التعامل مباشرة مع المجالس البلدية المنتخبة ، ومع اهتمام إسرائيلي وغربي غير مسبوق بالانتخابات المحلية ، كل ذلك يضعنا أمام مشهد شبيه بما كان عليه الحال عند محاصرة الرئيس ابو عمار في المقاطعة عام 2003 وقرار إسرائيل وواشنطن بتجاوزه وإعادة النظر في التعامل مع السلطة ، وما صاحب ذلك من حالة فلتان أمني وسياسي أدى لاحقا لاغتيال الرئيس أبو عمار وإضعاف السلطة الوطنية وفرض شروط أمنية وسياسية مجحفة عليها وفرض إجراء انتخابات محلية وتشريعية ، ثم الانقسام .
ما يجري اليوم في مناطق السلطة وفي الضفة خصوصا يجعلنا نستحضر سنوات الفوضى والانفلات والتآمرات الداخلية والخارجية ، حيث تم توظيف بعض أوجه الخلل في أداء السلطة وحالة الفلتان الأمني المُخطط والممنهج وتضخيم الحديث عن الفساد و الخلافات الفلسطينية ... لتمرير معادلة أو خطة كانت مُعدة مسبقا لضرب المشروع الوطني من خلال إفشال السلطة الوطنية وتقسيم مناطقها .
ولأنه لم تُجر قراءة دقيقة وصحيحة للسنوات ما بين 2000 و 2007 فإننا نخشى بأن ما يجري اليوم يندرج في نفس السياق أو مرحلة جديدة تهيئ لمعادلة إسرائيلية إقليمية دولية جديدة . نعلم ونلمس وجود خلل في أداء السلطة الوطنية وضعف تواصلها من أهلنا في الضفة الغربية والتباس في علاقتها بحركة فتح ، ونتفهم مواقف المنتقدين لأداء السلطة والمطالبين بالإصلاح والمصالحة الوطنية ، كما نلمس تزايد ثقل العائلية على حساب الحزبية ، وتزايد تطلع البعض لإعادة الارتباط بالأردن ، بالإضافة إلى انتشار السلاح وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بتواطؤ إسرائيلي ، ولكن ... .
يجب الحذر من أن توظِف إسرائيل كل هذه الأمور لإخراج نفسها من مأزقها الدولي ، وإفشال الجهود الدبلوماسية للرئيس وحملات المقاطعة ، وإطلاق رصاصة الرحمة على السلطة الوطنية ، وتكريس الانقسام وإحلال نخبة جديدة في الضفة الغربية سواء من بوابة الانتخابات المحلية أو بوابة الجماعات المسلحة والعائلية المرتبطين بجهات عربية وإقليمية وبإسرائيل مباشرة .
نتمنى على القيادات الوطنية الصادقة وهي تتعامل مع الاحداث في الضفة أن تقرأ جيدا الاستراتيجية الإسرائيلية وتصريحات ليبرمان ونتنياهو ، وأن تستحضر سنوات الانفلات الأمني والفوضى في نهاية عهد الرئيس أبو عمار . وأن يربطوا كل ذلك بما يتم الإعداد له لفلسطين والمنطقة . ولا بأس من التذكير كيف وظفت واشنطن وحلفاؤها حالة الغضب الشعبي العربي على الأنظمة ووجود إرهاصات ثورات شعبية حقيقية لتقوم بتدمير الدولة الوطنية وتفتيت وحدة المجتمع ، وتقطع الطريق على دعاة الديمقراطية والإصلاح والثوريين الحقيقيين لصالح جماعات غير وطنية .
مع أننا مع تغيير وظيفة السلطة وأدواتها وعلاقتها مع إسرائيل ، ومع إعادة رسم علاقاتها بحركة فتح ومنظمة التحرير وبالمشروع الوطني ، إلا أن ما يجري في الضفة لا يندرج في سياق ارهاصات وطنية ثورية ، ولا يستهدف الأجهزة الأمنية و السلطة الوطنية فقط ، بل يستهدف المشروع الوطني ووحدة الشعب ، وبالتالي مهمة التصدي يجب أن تكون مسؤولية الجميع . وفي هذا السياق نستغرب الموقف المتفرج للفصائل والأحزاب بما فيها حركة فتح تجاه ما يجري ، وكذا موقف مؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والاعتبارية ، ولا ندري إن كان هذا الموقف السلبي يعبر عن جهل لحقيقة ما يجري ؟ أو أنها تعرف الحقيقة ولكنها عاجزة عن فعل أي شيء ؟ أم أن المسالة الوطنية لم تعد مركزية عند غالبية هذه الأطراف ، و خصومتها وكراهيتها للحكومة والأجهزة الأمنية تفوق أية اعتبارات أخرى ؟ وإذا كانت حركة حماس والجماعات الإسلامية الاخرى غير معنية بما يجري يل ربما تكون متواطئة بدرجة أو أخرى ، فماذا عن فصائل منظمة التحرير وهل ستكرر نفس الموقف والسلوك الخاطئ الذي اتخذته سابقا ؟ أم أن هناك رواية أخرى لا نعرفها ؟ .
د/ إبراهيم أبراش