على النقيض من مراحل صعودها الأول تعيش الفصائل الفلسطينية حالة عقم غير مسبوقة في الحراك الفكري. ففيما شهدت مرحلة ما بعد هزيمة 1967 جدالات فكرية عالية المستوى ومشاريع أنتجت اصطفافات واسعة، نجد هذه الفصائل ذاتها تبتعد من كل جدل سياسي أو فكري، بل لا نبالغ حين نقول إن أبرز رموز النتاج الفكري السابقين يشهدون اليوم مرحلة شيخوخة تجعلهم ينأون بأنفسهم بعيداً من أي حوار مع الآخرين.
وهو نأي أنتج بالضرورة حرصهم على منع الحوار واعتباره نوعاً من الترف لا لزوم له، بل حتى نوعاً من "التشكيك" بصدقيتهم وجدارة أدوارهم السياسية القيادية.
نتذكر جميعاً مرحلة ما قبل أحداث الأردن في أيلول (سبتمبر) 1970 وما عاشته الفصائل جميعاً من جدالات عاصفة بين تيارات فكرية وآراء سياسية متنوعة كان فيها الكثير مما نعتبره أشكالاً من الطفولة السياسية وخصوصاً اليسارية، ولكن كان فيه أيضاً ايمان الجميع بالحوار وأهميته. أتذكر أن تلك الحوارات ساهم فيها قادة فلسطينيون كبار بل مفكرون عرب، وأنها تركزت حول ثلاث قضايا كانت تعتبر في حينه قضايا كبرى تحتاج الى التوافق حولها:
- أهداف الكفاح الفلسطيني النهائية في التحرير وما ارتبط بها من أطروحات، خصوصاً الدعوة الى الدولة الفلسطينية الديموقراطية التي يتعايش فيها الفلسطينيون واليهود بعيداً من الصهيونية والاستيطان.
- الموقف من الدول والحكومات العربية بين طروحات ما عرف آنذاك، في مناخ 1970 في الأردن، بضرورة وجود "هانوي عربية"، وشعار حركة فتح الشهير "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية"، وهو الاختلاف الذي وضع تلك الفصائل بين حدّي شعار الجبهة الديموقراطية "كل السلطة للمقاومة" وشعار فتح في أهمية حماية الثورة والنأي بها في الوقت ذاته عن أي شأن داخلي في الدول العربية عموماً وفي الأردن على وجه الخصوص.
- المسألة الثالثة كانت تقييم ما حدث في الأردن في أيلول 1970 وطيلة عام 1971 من مواجهات دامية كانت محصلتها النهائية خروج الجميع من الأردن وانتهاء مرحلة الكفاح المسلح من الأغوار وبدايات البحث عن بديل للساحة الأردنية.
رغم ملاحظات لا تحصى على تلك النقاشات كلها، غير أننا نستطيع النظر اليها اليوم بإيجابية لسبب بسيط ومهم هو أنها كانت تفترض احتكاماً جماعياً للعقل والحوار لا بد أن ينتج أفقاً سياسياً مفتوحاً ورحباً يمكنه أن يرتقي بالحالة السياسية الفلسطينية من مجرَد عمليات فدائية محدودة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي الى ثورة بالمعنى الكامل والعميق للكلمة.
أعتقد أن بعض ذلك تحقق عشية حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 حين طرحت الجبهة الديموقراطية برنامج الإستقلال في دولة فلسطينية ضمن أراضي الإحتلال الثاني، أي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وحق عودة اللاجئين الى مدنهم وقراهم التي جرى احتلالها في حرب النكبة عام 1948. وعلى رغم ما خلقه الشعار من جدالات عنيفة أحياناً فإنه أدخل الساحة الفلسطينية برمتها في "مربع السياسة" وجعلنا، كما يقولون، "نغمس في الصحن" لأول مرَة، أي نناوش القضايا الكبرى بعمق وجدية، رغم مع ما رافق تلك الجدالات من اتهامات متبادلة أعتقد أنها أخلت مكانها بعد ذلك لنوع من الواقعية.
سخونة تلك الجدالات وخطورة المسألة موضوع النقاش خلقت بين الأطراف المختلفة نوعاً من أحادية النظر لم يسلم منها طرف واحد، ففي حين رأى أصحاب "البرنامج المرحلي" أن برنامجهم يقترب من الشرعية الدولية ويستدرج تأييداً دولياً أوسع بالتأكيد من شعار تحرير كامل التراب الفلسطيني، نسوا أن هذا، وإن كان صحيحاً، يفتح الباب لتنازلات لا يعرف أحد حدودها بعد ذلك، باعتباره انطلق مسبقاً من قبول بأقل من 22 في المئة من فلسطين الإنتدابية وفق خريطة سايكس – بيكو، فيما تجاهل رافضو البرنامج حقيقة أنه يحقق فعلاً أوسع تأييد دولي ممكن، بل وغالى بعضهم في الاتكاء على آمال ليست سوى أوهام بأن يؤيد العالم شعار تحرير فلسطين الكامل.
هل يمكن لنا اليوم استعادة شيء من حيوية تلك الحوارات؟ أجيب: نعم، ولكن من خارج الفصائل. فقد بات واضحاً أن تلك الفصائل لم يعد لديها ما تقدمه، وهي بتقديري لا تريد ولا تبحث عن فكر حيوي يقوم على الحوار لسبب مهم هو أن الحوار الجاد يوصل بالضرورة الى نفض اليد والعقل من فكرة وجود الفصائل وقدرتها على مواصلة قيادة العمل الوطني الفلسطيني بعد كل ما أنتجته سياساتها من فشل تكرَر عشرات بل مئات المرات حتى بات عنواناً ينتظم نشاطاتها ووجودها برمته.
طرح الصديق ماجد كيالي أفكاراً عن دولة واحدة لكل مواطنيها، وكان مقبولاً أن يناقشه الآخرون حتى وأن يرفضوا طرحه ولكنْ من خلال نقاش حقيقي يقوم على الاحترام، فلم نقرأ سوى رفض لفكرة أن يجيء الحوار "من خارج الفصائل"، بما يعنيه ذلك من هلع البعض من أي جديد يمكن أن يلوح في الأفق أو حتى في المخيلة، والحرص على إعادة المتحاورين، أي متحاورين، الى بيت طاعة فكري لن ينتج سوى العقم والفراغ.
كل شيء قابل للنقاش والجدل من حوله ومن دون ترهيب وتخوين، فلا أحد يملك الحقيقة، ولا أحد بقدرته فرض الوصاية على أحد. أعتقد أن ما هو مطلوب وضروري اليوم هو الحوار ثم الحوار كي يصبح بالإمكان عرض الأفكار أولاً ثم النقاش حولها بعقول مفتوحة وبلا اشتراطات مسبقة مهما تزيَّت بشروط زائفة ومضللة.
راسم المدهون
* كاتب فلسطيني