إنَّ أكبر غلطة في التاريخ عندما انفصلت علوم السياسة عن علم الأخلاق، لأن السياسي يفكر في الانتخابات القادمة، أما الوطني فيفكر في الجيل القادم، فالسياسة هي فن الممكن لتحقيق المصالح والأهداف، والمصالح هي التي تحكم العلاقة بين الأطراف، فعدو عدوي صديقي في عُرف السياسة، وأعداء الأمس قد يصبحون أصدقاء اليوم؛ بسبب تعارض المصالح التي كانت مشتركة سابقاً بينهم، وهذه هي السياسة.
لكن الوطنية تختلف عن السياسة، فالوطنية شعور يتأصل وينمو في الناس، ويزداد لهيبه في القلوب كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه، ومَن لا يقدر أن يقوم بواجبه نحو وطنه، لا يحق له أن يتنعَّم بخيراته، ويعيش بين ربوعه، فالوطن هو المنطلق والقبلة والمبدأ والغاية، وهل من حاجة للإتيان بأدلة وضرب الأمثلة على أهمية الوحدة والتضامن في حياة الشعوب، لقد قالوا: (مَن لم يقرأ العواقب، فما الدهر له بصاحب)، و(الخلاف عند النوائب يوصل للخراب)، ولله در مَن قال: (أبعدوني عمن يقول: أنا كالشمعة أذيب نفسي ليستضيء الناس بنوري، وقربوني ممن يحسُّ أنه يستضيء دائماً بأنوار الناس).
وشعبنا الفلسطيني في قطاع غزة طحنته أعباء الحياة، وإحساسه العميق بما يزلزل كيانه العام، وينتظر مَن يأخذ بيده، وهو يلوذ بصبره العجيب، وسط هذا الخضم من السيطرة عليه والتحكم في مصيره؟ هذا الشعب الذي آثر السكوت، ووقف يرقب تطور الأحداث، ولم يجد متنفساً لإعلان سخطه إلا في مجالسه الخاصة، أو على صفحات التواصل الاجتماعي، يهمس بالقول ولا يجهر به، ما يدل على مزيد من الحذر، هذا إن لم نقل إنه يدل على الفتور والتقاعس، وإيثار السلامة، وقد نالهم جميعاً من سوء الجزاء ما نالهم، ولسان حالهم يقول:
يا قلب صبراً جميلاً إنّه قدر
يجري على المرء من أسر وإطلاق
والناس أصفارٌ كبيرة، أو أصفارٌ صغيرة. أصفارٌ سعيدة، أو أصفارٌ تاعسة. أصفارٌ فقيرة، أو أصفارٌ ثرية، فلا وجود لوطن حر إلا بمواطنين أحرار، يقول سارتر: (أنا أكره الضحايا الذين يحترمون جزاريهم)، أما شكسبير فيقول: (في لحظات معينة يكون الناس هم الذين يقررون مصائرهم، لذا إذا كانت أوضاعنا متدنية فليس الخطأ خطأ النجوم والأبراج، إنه خطؤنا نحن)، فالوطنية كلٌ لا يتجزأ، والانتماء لا يقبل القسمة، فلا تسل عما يمكن أن يقدمه لك وطنك، بل اسأل نفسك عمّا يمكنك أن تقدم له، فالرجال تصنع أقدارها بأيديها، وإذا لم تصنع مستقبلك بنفسك، فإنك تتركه للآخرين يصنعون مستقبلك، والشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف، يقول المتنبي:
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولا بدَّ دون الشهد من إبر النّحل
بقلم/ نعمان فيصل