هل تمكنت إسرائيل من حشرنا في أضيق الزوايا؟ وهل تم استدراجنا إلى أسوأ الخيارات؟ هذه الأسئلة ربما تتبادر إلى أذهان الكتاب والمراقبين كلما فكرنا باتخاذ خطوة للأمام تحاول إنقاذنا من وضع هو الأسوأ. نرى أنفسنا كأننا نغرق أكثر، هكذا كانت خطواتنا في السنوات الأخيرة بلا خارطة طريق تهدينا إلى بر الأمان الذي اشتد التوق له بل وطال انتظاره.
في كل مرة، نجد أنفسنا وسط ثنائية مأزومة وكل الخيارات لا تدل على الطريق وفي كل خطوة نخطوها نجد أنفسنا أمام خيارين أحلاهما مر. هكذا الأمر لأن جميعها تستظل بالأزمة الأكبر، أزمة تحول المؤقت إلى دائم، والمقصود السلطة الوطنية والتي وضعتنا أمام بؤس الخيارات؛ فلا نحن قادرون على حلها وإعادة تأصيل العلاقة مع الاحتلال، ولا نحن قادرون على تحويلها إلى دولة على الرغم من القرار الأممي بإعطائنا دولة في الأمم المتحدة. ولأن القانون الدولي يعلو على القانون الوطني لذا يجب أن نجري انتخابات الدولة وهل هذا ممكن؟ الواقع أكثر تعقيداً.
ثنائية الأزمة تتبدى مع كل قرار هذه المرة بعيداً عن الدعايات الانتخابية، وعن مهرجانات الانتخابات والانتصارات والوعود التي لن تتمكن أحزاب أوروبية من تنفيذها؛ لأن الإسرائيلي يقبض على كل شيء.
علينا الاعتراف بأننا سنجري هذه الانتخابات البلدية تحت الاحتلال، وهو ما حاولت إثارته في مقال سابق بدراسة المسألة، حيث إن إسرائيل تبذل كل جهدها وتسخر كل إمكانياتها لتثبيت الوضع الراهن وإضعاف السلطة الوطنية، بل وتريد أصلاً من هذه السلطة أن تكون عبارة عن بلدية كبيرة تقدم خدمات للمواطنين فقط.
فما يخص إسرائيل في كل حالتنا هو أن تجد بلديات منتخبة لتلك الخدمات، بل إن مشروع ليبرمان القديم الجديد يقوم على التعامل مباشرة مع البلديات المنتخبة، بما يحقق تجاوز السلطة نفسها وكذلك منظمة التحرير التي تجمعت كل الظروف الدولية والإقليمية والمحلية لتغييبها عن المشهد الفلسطيني، وقد حدث هذا التغيب لصالح مشروع السلطة، والآن يجري تغيب السلطة لصالح مشروع البلديات المنتخبة، ومن حق ليبرمان بعدها أن يقول: إن الجسم الوحيد المنتخب هو البلديات في ظل الصراع على السلطة وغياب الانتخابات التشريعية والرئاسية.
حتى ولو جرت انتخابات السلطة فإنني لا أظن أنها ستغير في واقع الأمر شيئاً، وهنا تبدو التساؤلات التي نتواطأ جميعنا لإبعادها.
تساؤلات التجربة الممتدة منذ أكثر من خُمس قرن، بأن نستمر بحكم أنفسنا تحت الاحتلال، وليس مهماً هنا أن نحكم أنفسنا بالصندوق أو بالأمن. هذا لا يهم إسرائيل كثيراً لذا فإن ثنائية الأزمة التي تتبدى مع كل خطوة هي أننا أمام واقع تساؤلاته المعقدة: هل نجري انتخابات تحت الاحتلال وله مصلحة مباشرة فيها، بل ويهدد بتجاوز شرعيتنا بها أم لا؟ هل نجري انتخابات ونقبل بحالة الستاتيك القائمة والتي أحدثت ما يكفي من التآكل الداخلي وساهمت بتكريس سطوة الأمن لأن من لا يحكم بالصندوق يحكم بالأمن؟
وضعنا في غاية الضعف، والأزمة متعددة الأبعاد وتعيد استنساخ نفسها مع كل حركة نفكر بها، معتقدين أنها ستأخذ بيدنا من هذا الواقع، لنكتشف لاحقاً أنها تضيف واحدة إلى أزماتنا المعقدة.
وها نحن أمام خيارين: هل علينا أن نجري الانتخابات المحلية وسط هذا الكابوس الكبير .. إن إجراءها يشبه الرقص في الجنازة ليس أكثر دون أي محاولة تجميلية بمساحيق الشعار الوطني التي اعتادت الفصائل أن تخدعنا بها خلال السنوات الماضية. أم نتوقف عن لعبة الانتخابات التي نرى نتائجها مسبقاً، وبذلك تضيف واحدة إلى حالات الاستبداد القائمة؛ لأن أسوأ أنواع الحكم هو الحكم الذي تغيب عنه الانتخابات ورقابة المواطن ومحاكمة المواطن للمسؤول عندما يعتقد أنه باق للأبد. يبدو أن الفلسطينيين اختاروا أقل الخيارات خسارة وسط تلك الخسارات الكبرى، وهو إجراؤها .. قليلاً من الرقص الأشبه بوصلة ترفيهية وسط حفلة الحزن القائمة.
ولكن هل سيتوقف الأمر عند الثامن من أكتوبر القادم؟ هذا ممكن حينها نكون ارتكبنا الجريمة الأحدث بأننا سرنا إلى حيث يريد وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد الذي لم يعد يخفي مشروعه بتجاوز السلطة وتجاهل الشرعيات الفلسطينية، وهو المشروع الذي يجب أن يقف الجميع في مواجهته، المعارضة قبل السلطة وحركة "حماس" قبل حركة "فتح"؛ لأن في الأمر ما ينذر بالمشروع الإسرائيلي القديم "روابط القوى" بديلاً عن حركة التحرر الوطني بـ"فتحها" و"حماسها" وكل الفصائل القائمة، وهو المشروع الذي تم وأده في سبعينيات القرن الماضي بسهولة؛ لأن القيادة الفلسطينية كانت في الخارج أكثر حرة ولم يكن صراع بين القوى كل منهم يخشى من الآخر، وكانت منظمة التحرير أكثر حيوية وأكثر قدرة على مقاومة المشاريع أما الآن فإن الوضع مختلف.
لذا يجب أن يتم الاتفاق حتى قبل موعد إجراء الانتخابات المحلية على تجديد الشرعيات الفلسطينية .. الانتخابات التشريعية والرئاسية وإلا سيصبح ما نقوم به عبارة عن تكريس لواقع الأزمة، بل وإضافة أحد أخطر عناصرها وهو إيجاد قيادة منتخبة تشكل بديلاً لقيادة المنظمة والفصائل التي أجرت آخر انتخابات قبل أكثر من عقد، وهنا علينا أن نعترف أن نقاط قوة الإسرائيلي في السنوات الأخيرة هي جزء من صناعتنا أو جزء من فشلنا في صناعة واقع أكثر قدرة وأكثر حصانة، فالانقسام وحده تكفل بإعطاء إسرائيل ترسانة من قوة المواجهة ضدنا، وبالمقابل مارس جهلنا أكثر أنواع العداء ضدنا ليجردنا من واحدة من أقوى أوراق قوتنا وهي ورقة الوحدة والدفاع المشترك أثناء الصراع على السلطة والامتيازات.
وإن تم الاتفاق على ذلك وإذا ما أجريت الانتخابات العامة للسلطة، ينبغي أن تكون مقدمة لإعادة البحث في أدوات المشروع الوطني، خاصة أن التجربة أثبتت في العقود الأخيرة أنه لا المفاوضات ولا المقاومة حققت تقدماً على صعيد التحرر، هذا لا يكون منفصلاً عن سؤال الاتفاق على ضرورة السلطة نفسها إن استمر الإسرائيلي بتحويلها إلى ذراع إداري فقط. هذا يحتاج إلى حوار جدي وإلى إجماع يتحرر الفلسطينيون به من منافسة أصابت مشروعهم بمقتل، آن الأوان بالتفكير بالإستراتيجيا الوطنية لا أن ننشغل بانتخابات محلية وكيف نحولها إلى مقدمة للمشروع الوطني وليس لمشروع ليبرمان.
الانتخابات ستتم.. النقاش فيها متأخر، وخسارة أنه لم يكن قبلها لنعرف إلى أين نحن ذاهبون، ولكن لا تهم هنا الآراء التي تبدي اعتراضات أو تخوفات جدية.. ولكن الحذر من أن تنتهي القصة الحزينة عند صناديق المحليات لنكتفي برقصة جنائزية فقط..!
أكرم عطا الله
2016-08-28
[email protected]