أفكار مجنونة في مواجهة ليبرمان

بقلم: رائد الدبعي

 منذ قيام بنغوريون بإعلان إسرائيل عام 1948، وهي تسير نحو برنامج  توسعي مدروس وممنهج ، يقوم على قاعدة  " أرض أكثر وعرب أقل "،  مستخدمة كل الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك، سواء من  خلال  ذراعها المسلح، قوات "الهاجاناه"   او عصابتي  " الاَرجون " بقيادة  "مناحيم بيجن"  و" شتيرن "  التي كان يرأسها إسحاق شامير،  من خلال  تنظيم الهجرة  باستخدام وسائل  غير شرعية  ليهود العالم  إلى فلسطين، بمختلف الوسائل ، بما في ذلك إرهابهم، كما حدث مع يهود العراق، وغيرهم من يهود العالم العربي، وإتقان لغة المصالح، واستغلال الصراعات بين القوى الكبرى، ففي حين كانت قوات الهاجاناه تحارب إلى جانب القوات البريطانية، وتنظم هجمات مشتركة معها ضد قوات حكومة فيشي على الجبهتين السورية واللبنانية، وغيرهما، كانت عصابة "شتيرن"  تحاول نسج علاقات مع النازيين عبر مراسلات إسحاق شامير للسفارة الألمانية في أنقرة، في حين كانت عصابة "الارغون"  تختطف الضباط والجنود البريطانيين وتعدمهم ، وتفجر الفنادق، وسكك الحديد لتقطع الإمدادات البريطانية،  هذا بالإضافة إلى انتهاج كل الأساليب الممكنة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، بما في ذلك تدمير 531 قرية فلسطينية بشكل كامل، وارتكاب ما يزيد عن خمسين مجزرة موثقة  ضد المدنيين،  مما أسفر عن تهجير ثلثي الشعب الفلسطيني، وتحولهم إلى لاجئين في وطنهم، أو في دول الجوار .
لم يكن الاستيلاء على  78% من مساحة فلسطين، إلا بداية مرحلة جديدة من مخطط الحركة الصهيونية، ولم تخف الحركة الصهيونية يوما أطماعها التوسعية في الضفة الغربية  وقطاع غزة والقدس ، وليس صحيحا أن احتلال الضفة الغربية بما في ذلك ما تبقى من القدس  وقطاع غزة،  جاء نتيجة مفاجئة لماَلات حرب الأيام الستة، ونكسة شعبنا،  إذ يشير وزير الجيش الإسرائيلي " موشي ديان "  في مذكراته بأن " ديفيد بينغوريون " قد اقترح على رئيس الوزراء الفرنسي " جي موليه " خلال مباحثاتهما في باريس حول خطة العدوان الثلاثي على مصر بتاريخ 22 تشرين أول 1956، سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية، ومنح سكانها حكما ذاتيا لا يرتقي أبدا إلى مستوى الدولة، مقابل حل قضية اللاجئين الفلسطينيين عبر توطينهم في الضفة الشرقية التي اقترح بينغوريون ضمها للعراق، فيما كان احتلال  قطاع غزة، وصولا إلى شرم الشيخ هدفا رئيسيا له من أجل إحكام السيطرة على ميناء ايلات، وهو الأمر الذي يقود إلى تحقيق مطامع الحركة الصهيونية في إقامة مشاريع استيطانية في النقب.
     وحينما بدأت مفاوضات "كامب ديفيد" بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات، "ومناحيم بيجين"، عرضت  الحكومة الإسرائيلية  رؤيتها للقضية الفلسطينية، والمتمثلة  بإقامة حكم ذاتي، وانتخاب مجلس إداري لإدارة الشؤون اليومية للفلسطينيين، دون الاعتراف بحقهم في  تقرير المصير، بل إن  بيجين  عَقّب على تصريحات الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" حول ضرورة الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بأن " تقرير المصير في القانون الدولي يعني قيام دولة فلسطينية، وإننا لن نوافق على قيام هذا الخطر المميت بالنسبة لإسرائيل"، فيما شاءت الأقدار أن ترتكز اتفاقية أوسلو على  ذات الشروط، والمبادئ  التي وضع أسسها بيجين عام 1978.
      خطة وزير الجيش الاسرائيلي المتطرف " افيغدور ليبرمان " القائمة على تجاوز القيادة الفلسطينية، والتواصل المباشر مع المواطنين، عبر وسطاء مهيئين للخنوع والتنازل والتعايش مع المحتل  لا تشكل سابقة جديدة، فقد سبق " ليغئال كرمون"  " ومناحيم ملسونعام " ، تأسيس ما عرف بروابط القرى عام 1978، ووفرا لها كل المقومات التي من شأنها  خلق قيادة فلسطينية بديلة عن  منظمة التحرير الفلسطينية، تتقبل الأسس التي قامت عليها كامب ديفيد،  على أمل تهيئتها للقيادة وتمثيل الفلسطينيين، من خلال منح تلك الشخصيات عددا من الصلاحيات والتسهيلات، المتعلقة بجمع شمل العائلات، والتسويق الزراعي لمزروعات المتعاونين من المزارعين،  والحصول على البذار بأسعار زهيدة،  وتقديم مشاريع وخدمات للتجمعات المتعاونة، مرورا بتسليح تلك الروابط، التي تحولت إلى عصابات منظمة، تساهم في قمع الجماهير، وإسكات نبض الثورة في عروقهم.
      نجح شعبنا بإسقاط خيار روابط القرى، نتيجة للالتفاف حول برنامج منظمة التحرير المقاوم، ورفعها بالشعار والممارسة  " نعم لشرعية  البندقية  المقاتلة "، ولتسطيرها بالدم والعرق والنضال سيرتها ومسيرتها، مما ساهم في الحفاظ على وحدانية تمثيل منظمة التحرير، وعبورها اختبار الشرعية بنجاح.
       إلا أن الزمن غير الزمن، والظروف غير الظروف، والتحديات المحيقة بقضيتنا ووجودنا على الأرض أشد خطورة، وأكثر جدية، بل أن وجودنا على الأرض أضحى مهددا، ومن السطحية  المرور على خطة ليبرمان دون اكتراث، فإعلانها وتوقيتها ليس من باب المصادفة، وهي  نتيجة لقراءة عميقة لمختلف الظروف المحيطة بقضيتنا وشعبنا، ولدراسة مستفيضة للتغيرات  الاقتصادية  والاجتماعية والطبقية في المجتمع ، ولمعرفة دقيقة بحجم الإنهاك والاحتقان، والإحباط الذي يعتري المواطنين، نتيجة لتعمق جرح الانقسام، وانغلاق أبواب الأمل، وانعدام الفرص بغد أفضل، أو تحقيق أي اختراق في الملف السياسي، كما أنها لم تغفل أن الانتخابات المحلية على الأبواب، وبالتالي فهي محاولة واضحة للتأثير على توجهات الناخبين.
     لكي لا تكون الصورة قاتمة إلى حد السواد، فإن الجهود التي تبذل في المنظمات الدولية، ولا سيما حصولنا على منزلة " دولة مراقب " في الأمم المتحدة ، يعتبر انجازا وطنيا هاما، كونه يشكل اعترافا دوليا بفلسطين كدولة، ويحسم حالة الجدل الذي تحاول اسرائيل فرضه على الأراضي المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، إلا أن هذا الانجاز وحده لا يوقف شراهة  التوسع التي تعتري قادة الاحتلال، والتي اختصرها بنغوريون عام 1956، حينما أخبره مساعدوه  أن الولايات المتحدة الأمريكية بصدد استصدار قرار دولي بوقف العدوان على مصر، بقوله" إنهم يجتمعون داخل المكاتب الوثيرة في نيويورك، بينما أقدام جنودنا في أرض المعركة تفرض الحقائق في ساحات القتال" ، وهو النهج الذي ورثه مختلف قادة الحركة الصهيونية، والقادة الإسرائيليين على اختلاف أيدلوجياتهم، وشعاراتهم المعلنة.
       لكي يكون لصوت القيادة الفلسطينية  من مختلف الفصائل الوطنية والاسلاموية صدا في عقول وقلوب وسلوك الجماهير، فلا بد من أن يشكل سلوكهم  نموذجا يحتذى، ولكي نستطيع الانتقال من مرحلة الشعارات إلى العمل، فلا بد أن تكون القيادة في المقدمة،  فمن غير المقبول أن يطالب من يمتلك بطاقة  ال  VIP "" من لا يمتلك رغيف خبز أن يضحي وأن يتحمل الجوع، وأن يسقط مخططات المحتل وحيدا في الميدان، ومن غير المعقول أن يطالب أي مسؤول جماهير شعبنا التي تصفع الشمس جباهمم تحت حواجز المحتل، أن يرابطوا ويقاطعوا من برجه العاجي المكيَف،  وعليه فإنني أرى أن الخطوة الأولى نحو إفشال مخطط ليبرمان يجب أن تأتي من القيادة، من خلال قرار  بالتنازل عن كل الامتيازات الممنوحة لهم  نتيجة اتفاقية  أوسلو، فالشعوب  التي تبتغي الحرية لا تقبل امتيازات من جلادها، ولا ينتقص من قيمة مسؤول مهما علا شأنه أن يلتسع هواء الوطن في طابور الانتظار على حاجز احتلالي، فهو أحن عليه بكل الظروف من هواء المكيفات خلف الزجاج المعتم، ومن الظلم اخضاع الجماهير لاختبار الوطنية من برجنا العاجي، وأن نطالب الناس بالبصيرة والبصر الحاد، فيما نعاني عمى سياسيا مزمنا.
إن شعرت أن أفكاري مجنونة فعليك مراجعة منسوب الوطنية لديك، إذ قد تكون مصاب بداء استطابة الحياة الوثيرة تحت سياط المحتل، وإن رأيتها منطقية وعادلة،  فأنت ممن  يرجو وطنا حرا عزيزا كريما سيدا، كما أراده الشهداء والاسرى والجرحى والمعذبين.
      ختاما، علينا أن لا ننسى أن التفاف  الجماهير وحمايتها، وحبها،  هي مصدر قوة الشهيد الخالد ياسر عرفات، ورفاقه من قيادة الثورة الفلسطينية خلال محطاتها المتعددة،  qحضوره الدائم بين المواطنين، وإلغاءه لكل الحواجز معهم،  بدءا من الدوريات نحو الأرض المحتلة، مرورا بالكرامة، وحصار بيروت، وحصار المقاطعة، وحضوره في بيوت العزاء، والأفراح، واستقباله الدائم للمواطنين، من نساء وشباب وشيوخ، وأطفال، هو ثروته الحقيقية الباقية،  مما جعل من صوته معبرا عن إرادة المواطنين، مسموعا منهم في القرى والمدن والمخيمات.

 
       بقلم : رائد محمد الدبعي