عندما طالبنا وطالب كثيرون من الغيورين على المصلحة الوطنية بتأجيل الانتخابات المحلية لحين توفر الظروف المناسبة لعقدها ، لم تكن دعوتنا مبنية على حسابات حزبية ضيقة كالخوف من هزيمة حركة فتح ، حيث كل المؤشرات تدل على أنه في حالة إجراء الانتخابات في أوضاع طبيعية ستفوز حركة فتح بغالبية البلديات ، بل خوفا على ما تبقى من وطن ووحدة الشعب ، ولقطع الطريق على مَن يحاول توظيف الانتخابات لتكريس الانقسام وتأجيج الفتنة وتجاوز المؤسسات السياسية الشرعية وتشكيل نخب جديدة غالبيتها من أصحاب رأس المال والمصالح الشخصية وأبناء عائلات وعشائر لا تاريخ وطني لهم الخ ، ستحل محل المؤسسات الشرعية لأن الأولى ستكون النخب المنتَخبة شرعيا في مقابل نخب ومؤسسات فقدت شرعيتها بالتقادم أو انتهاء ولايتها – المجلس التشريعي ورئيس السلطة وما ينبثق منهما ، حتى القانون الأساسي سيصبح فاقد الشرعية والقيمة - .
وتنبع تخوفاتنا أيضا من أن هذه النخب المنتَخبة الجديدة ، وفي ظل الانقسام ومحاولات إسرائيل تهميش وتغيير وظائف السلطتين القائمتين في الضفة وغزة ، ستضطر لتتعامل مباشرة مع الاحتلال دون مرجعية مشتركة أو ناظم وطني يربط بعضهم ببعض ، وستتحول القضية الفلسطينية من حالة تحرر وطني ونضال من أجل الحرية والاستقلال والدولة إلى قضية خدماتية اجتماعية تتصارع فيها نخب جديدة على المساعدات الاجنبية ، والتساوق مع خطة ليبرمان وما يتم التخطيط له من تسوية قادمة ستنهي ما تبقى من مؤسسات يمكن نسبتها للمشروع الوطني .
موجبات التخوف جاءت أيضا من تجاربنا السابقة لإجراء انتخابات بدون توافق وطني كما جرى مع الانتخابات التشريعية 25 يناير 2006 ، ومستمده مما تشهده الساحة الوطنية بعد الإعلان عن إجراء الانتخابات ، من تفاقم مظاهر الانقسام وتراشق إعلامي وتكفير وتخوين واعتقالات واعتداءات ، دون أي مؤشر على نوايا حقيقية لتكون الانتخابات رافعة ومنطلق للمصالحة الشاملة كما يزعم المتحمسون لإجرائها .
لو كانت هناك نية حقيقية لتحويل الانتخابات من استحقاق مفروض خارجيا إلى استحقاق وطني ومدخل للمصالحة الشاملة ، ما توقفت جلسات الحوار الوطني للمصالحة و لكانت الأطراف المعنية استمرت بالحوار وتوافقت على أقل تقدير على كيفية تشكيل قوائم انتخابية تحالفية ، أو توافق على كيفية إدارة العملية الانتخابية بروح وطنية ، وكيفية التصرف ما بعد الانتخابات .
كما تأسست تخوفاتنا أيضا من استلهام تجارب انتخابية في دول عديدة لم تؤد الانتخابات إلا إلى الفوضى والفتنة ، لأنه لا يمكن اختزال الديمقراطية بالانتخابات ، هذا إذا كانت المسألة الديمقراطية قضيتنا الرئيسية وليس الاحتلال وكيفية مواجهته ، كما لا يمكن اختزال العملية الانتخابية بصناديق الانتخابات فقط ، فالديمقراطية والانتخابات ثقافة وسلوك حضاري وتنافس لخدمة الشعب في إطار التوافق على المرجعيات والثوابت وفي إطار رؤية مشتركة لكيفية إدارة النظام السياسي ما بعد الانتخابات .
أعداء الشعب الفلسطيني وعلى رأسهم إسرائيل ، و بعض القوى الداخلية بحسن نية منهم أو سوء نية ، خلطوا الأمور وفسروا أو اختزلوا دوافع المطالبين بتأجيل الانتخابات بالخوف من هزيمة حركة فتح وأنها غير جاهزة للانتخابات أو أنهم لا يؤمنون بالديمقراطية ، وهو تفسير مغلوط أو جزئي ، فالمسألة ليست هزيمة أو انتصار لأشخاص في قوائم محسوبة على حركة فتح أو حماس أو غيرهما ، بل المشكلة في الأهداف الحقيقية وراء إجراء انتخابات بلدية في ظل الظروف التي أشرنا إليها ، دون توافق على موعد لإجراء بقية المنظومة الانتخابية – تشريعية ورئاسية ومجلس وطني - كما نص اتفاق المصالحة ، والمشكلة في غياب رؤية وطنية لكيفية التعامل مع نتائج الانتخابات ، وهل سيكون النظام السياسي الفلسطيني بعد الانتخابات أكثر قوة أم سيزداد ضعفا وانقساما ؟.
حالة اللبس والغموض التي تكتنف الحالة الفلسطينية في أجواء الانتخابات وما تثيره من قلق تشبه الحالة العربية مع بداية فوضى الربيع العربي . قد تبدو المقارنة في غير محلها ، حيث الانتخابات حدث محلي وما يسمى الربيع العربي حدث إقليمي ، ولكن وجه المقارنة يتأتى من باب (شرعية المبدأ أو الفكرة والتباس الممارسة ) ، أيضا من باب تداخل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية . ففكرة الثورة على أنظمة يرى البعض أنها دكتاتورية وفاسدة فكرة صحيحة ، ولكن الذي جرى أن أطرافا غير ديمقراطية ركبت موجة الحراك الشعبي بدعم أطراف خارجية لتحقيق أهداف خاصة بها تتعارض من روح الحراك الشعبي ودوافعه الأولى ، وتتعارض مع هدف الديمقراطية الذي تريده الجماهير ، كما غابت الرؤية والقيادة المشتركة للثورة ، وكانت النتيجة كيف تم تفريغ الربيع العربي من مضمونه .
هذا ما يجري مع الانتخابات البلدية الفلسطينية والتي تداخلت فيها النوايا الحسنة والرغبة بالتغيير مع نوايا أطراف خارجية غير حريصة على الشعب الفلسطيني ، كما شغلت الانتخابات الجميع وغطت على الممارسات الاستيطانية المتوالية وعلى الهبة الشعبية وعلى مخططات لإجبار القيادة الفلسطينية للعودة لطاولة المفاوضات تأسيسا لمشروع تسوية جديد أكثر سوءا من مشروع أوسلو .
كما صُدِمت الجماهير العربية بمجريات (الثورات) وما آلت إليه من تفكيك للأوطان وإزهاق للأرواح وصعود جماعات طائفية وقبلية وذات ارتباطات خارجية ، نخشى من نتائج مشابهة في الحالة الفلسطينية إن لم يتم تدارك الأمر بسرعة وتصحيح أخطاء اللجنة المركزية للانتخابات وتجاوزها لصلاحياتها ، وتدارك الأمر يكون من خلال توافق وطني على تأجيل الانتخابات المحلية أو اجتماع عاجل للقيادات العليا للفصائل للتوافق على آلية إدارة الحملة الانتخابية وعلى كيفية العمل والتنسيق ما بين الهيئات المُنتخبة وحكومة الوفاق الوطني وخصوصا وزارة الحكم المحلي ، وتحديد موعد لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية ، حيث لا يجوز القول ولا يمكن الفهم بأن الانتخابات المحلية استحقاق وطني وديمقراطي والانتخابات التشريعية والرئاسية ليست كذلك ! وكفى دفنا للرأس في الرمال بالزعم أن الانتخابات المحلية مجرد انتخابات لهيئات خدماتية .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش