شرق غزة وبحرها معاناةٌ دائمةٌ واعتداءاتٌ متكررةٌ

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

إنه جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يربض خلف الحدود، وينصب آلياته بعيداً عن مرمى المقاومة وعيون رجالها، ويتخفى وراء السواتر أو يتحصن في الدبابات وخلف الجدران، أو يجوب بعيداً عن الشواطئ في عمق البحار، أو يحلق عالياً بطائراته في السماء، إذ يخاف المقاومة وأبطالها، ويخشى من الاقتراب منها أو الاحتكاك بها، بعد أن خبر قوتها وجرب سلاحها، وراعه قوة رجالها وبراعة مقاتليها، واحتراف فرقهم وتفوق نخبهم، وعرف أنها تستطيع مهاجمته ومباغتته والنيل منه، بل وأنها تتربص به وتتعقبه، وتلاحقه وتتابعه، وتحاول قنص جنوده أو إصابتهم، كما تخطط لأسرهم واختطافهم، ولا تبالي في سبيل ذلك بما تفقد أو تخسر.

لكنه من بعيدٍ ومن خلفِ الأستارِ ومن عمق المياه الإقليمية ومن فوق الأجواء، يهاجم بخبثٍ سكان قطاع غزة، ويعتدي عليهم وعلى أرضهم، ويستهدف بعدوانه الحجر والشجر والبشر على السواء ولا يبالي، ويطلق وابل نيرانه على السكان في المحيط القريب وبعيداً في العمق أو على الأطراف، فيقصف أهدافاً محددة بالطائرات، ويصيب بالصواريخ مساكن ومباني، ومنشآتٍ ومعامل ومصانع ومؤسسات، ويدعي أنها مراكز إرهاب، أو معامل تصنيع سلاحٍ، أو مقرات قيادةٍ وإدارة عملياتٍ عسكرية، فيدمرها بهذه الحجة، ويغير على غيرها بنفس التهمة، في تكرارٍ دائمٍ ومتصلٍ لعدوانه الجوي المجنون على قطاع غزة وسكانه، حيث لا يكتفي بالقتل والتدمير والتخريب، وإنما يروع السكان، ويخيف الأطفال، وينشر الذعر والهلع بين الجميع، مخافة اندلاع حربٍ جديدة أو مواصلة القصف والدمار.

وبخبثٍ ومكرٍ وعدوانيةٍ مقيتةٍ عنهم معروفة، وعن أجدادهم موروثة، تطلق دباباته قذائفها على طول الشريط الحدودي شرق القطاع، بحجة أنها ترصد حركاتٍ مريبةٍ وأنشطةٍ غريبةٍ مثيرة للشبهة على الحدود وقريباً من الأسلاك الشائكة، فتطلق النار على كل من يقترب من الحدود، وتمنع المواطنين من العمل في أرضهم، أو المرور فيها في طريقهم إلى أعمالهم، وتجبرهم بالقوة على الابتعاد وتغيير مسارهم، وإلا فإنها ستصيبهم برصاصها، ولا يهمها إن كانت طلقاتها قاتلة أو أنها تصيبهم بجراحٍ فقط.

كثيرون هم الشهداء الذين قتلهم جنود العدو الإسرائيلي دون أي سببٍ أو مبررٍ، على الحدود الشرقية للقطاع في خانيونس وخزاعة وبني سهيلة ورفح والشجاعية وجباليا وبيت حانون، منهم الأطفال الذين لا يشكلون خطراً على أحد، بينما كانوا يلعبون ويتراكضون، ولا يملك العدو تبريراً لاستهدافهم سوى أنه يرغب في قتلهم، لمرضٍ في نفسه، واعوجاجٍ في خلقه، وشذوذ في فكره، وقد عبر بعض الجنود عن مرض نفوسهم بقوله، أنه لم يعجبه فرحهم، وقد أغاظه لعبهم وانشراحهم، فأراد أن يبدل فرحتهم حزناً فأطلق النار عليهم.

وممن قتلهم جنود الاحتلال على الحدود غيلةً وغدراً، وحقداً وخبثاً، تلاميذ المدارس الذين يحملون حقائبهم بينما هم في طريقهم إلى المدرسة أو أثناء عودتهم منها إلى بيوتهم، وقد صدمت الكثير من العائلات بنبأ استشهاد أبنائهم في الصباح أو عند الظهيرة، وهم يعلمون أنه لم تكن في يوم استشهادهم مواجهاتٌ أو مظاهرات، وإنما قتلوا في أيامٍ عادية، وفي فتراتٍ تشهد فيها المناطق هدوءاً نسبياً، وإلا فإن الأهالي في أيام المواجهات العنيفة والعادية فإنهم لا يرسلون أولادهم إلى المدارس، فضلاً عن أن المدارس تغلق أبوابها في مثل هذه الأيام إن شعرت إدارتها بأي خطورةٍ على تلاميذها.

أما الذين يستهدفهم جنود العدو شرق القطاع كل يومٍ فهم العمال وأصحاب الأرض، الذين يتوجهون كل يومٍ إلى أرضهم لفلاحتها ورعايتها، وبذرها أو جني ثمارها، فإن العدو يباغتهم بإطلاق النار عليهم، فيمنعهم من الوصول إلى أرضهم، ويحول بينهم وبين أعمالهم المدنية، وفي أحيان كثيرة تجتاح الآليات العسكرية الإسرائيلية أرض القطاع، وتتوغل الدبابات والجرافات فتعيث في الأرض المزروعة فساداً، تخلع وتخرب وتدمر قبل أن تعود أدراجها إلى أماكنها التي كانت فيها.

أما غرب قطاع غزة لجهة البحر المحروم منه سكانه، والممنوع على صياديه ومرتاديه استجماماً أو صيداً، فإن زوارق العدو لا تغيب عنه ولا تبتعد، ولا تتوقف عن القصف والقنص والاعتراض، فتقتل وتصيب، وتغرق أو تعتقل، وتسحب القوارب بما فيها إلى مرافئها الأمنية، تفتشها وتتلفها، وتلقي ما فيها في جوف البحر، ثم تحتجزها لأشهرٍ قد تطول، فإذا أفرجت عن أصحابها أبقت عليها رهن الحجز، ولا تفك حجزها إلا إذا سوى ربانها وضعها المالي، فدفعوا تكاليف الحجز ورسوم التحرير والاستلام، وغرامة التأخير إن تأخروا أو عجزوا.

أما قطاع غزة فهو من الجو مستباحٌ، تحلق في سمائه مختلف أنواع الطائرات العسكرية الإسرائيلية، كالطائرات بدون طيار، وهي كثيرة ولا تغيب عن أجواء القطاع ليلاً ولا نهاراً، ويطلق عليها السكان اسم "الزنانة"، والحوامات العسكرية "الهيليوكبتر" التي ينبئ تحليقها بعمليات اغتيالٍ وتصفيةٍ، واستهدافٍ لمواقع أو شخصياتٍ محددة، أما الطائرات الحربية القتالية فهي لا تحلق إلا لتقصف وتلقي بأحمالها الصاروخية على أهدافٍ كبيرة في قطاع غزة، فتدك أرضه، وتسوي بالتراب مبانيه ومساكنه، أو تخترق بأصواتها المرعبة، وطلعاتها المخيفة جدار الصوت، الذي يوقظ كل نائم، ويرعب ويخيف كل يقظٍ وصاحٍ.

رغم ذلك فإن الاحتلال الإسرائيلي قد خرج بدباباته وجنوده من قطاع غزة، ولم يعد له فيه معسكراتٌ ولا ثكناتٌ، ولا مراكز ولا معتقلات، ولا ما يدل عليه أو يشير إليه، إلا من بعض المخبرين والعملاء الذين زرعهم بيننا، وأبقاهم عيوناً وآذاناً له في أرضنا، من المتعاونين معه والمخبرين له، ممن خرجوا عن دينهم وفرطوا بمعتقداتهم وخانوا الوطن والشعب، إلا أنه خرج وقد فكك مستوطناته ورحَّل مستوطنيه، وخرب منشآته ودمر مبانيه ومؤسساته، ونكس أعلامه وطوى راياته، وحرق زروعه وخلع أشجاره، وانسحب من القطاع في جوف الليل، بعد أن اكتوى ناراً فيه، واشتكى ألماً ووجعاً منه، إذ عانى من لهيبه الذي لا يهدأ، وارتاح من أرضه التي لا تفتأ تتزلزل، ومن بركانه الذي لا يهدأ ولا ينفك ينفث عليهم حممه، ويقذفهم بحجارته اللاهبة، وابتعد عن سكانه الذين يعشقون الخطر ويركبون الصعب ويتحدون المستحيل.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

بيروت في 10/9/2016