العشيرة والعشائرية:
فرق شاسع بين مدلولات العشيرة والعشائرية فالعشيرة مجموعة اجتماعية تشكلت وفق أصول تاريخية سواء في المجتمع الأمومي أو المجتمع الأبوي وهي تطور طبعي للأسرة كنواة جنينية للمجتمع الأكبر والى جانب ذلك فهي أيضا مقدمة أو خطوة على طريق الدولة كمجتمع اكبر وفق أسس مختلفة أو توافقات مختلفة فكما رضيت الأسرة الصغيرة بالتنازل عن دورها لصالح العشيرة لما في ذلك من مصلحة حقيقية لها في التطور والثبات والقدرة على الصمود والاستقواء بالجسم الأكبر لصالح خطوة إلى الأمام فقد استطاعت العشيرة الغربية من التنازل عن دورها مدنيا لصالح الدولة عبر توحيد العشائر كمؤسسة للعشيرة الأكبر وهي الدولة كما فعلت الأسر بتوحيد نفسها كمؤسسة للأسرة الأكبر وهي العشيرة وبالتالي فان هناك فرق شاسع بين العشيرة كمكون للجماعة أو لبنة من لبنات المجتمع من المكون من عديد الأسر النووية أو البسيطة المترابطة بالدم والذي وجد أهمية ترابطه في مقومات الحياة والحاجة للإنتاج واستخدام أدواته وخلق آلياته لمواصلة الحياة والتي وجدت في العشيرة أيضا وسيلة للانتقال إلى الشكل الأحدث والأكبر للإنتاج من خلال تطور أدواته وأساليبه ومخرجاته وبالتالي فان الانتقال من العشيرة إلى ما هو أرقى لا يمكن له أن يتم بعيدا عن الانتقال الاقتصادي نحو شكل لا تصبح فيه العشيرة هي المظلة الأفضل بل المجتمع الاقتصادي أو الكيان الاقتصادي والعلاقات الإنتاجية الجديدة فما دامت العلاقات الإنتاجية قائمة على الأسس الأسرية والعشائرية في اقتصاد عائلي صغير ومغلق ستبقى العشيرة هي الأساس ومن يرى الفرق في العلاقات بين المدن الكبيرة المختلطة والقرى او البلدات أو حتى المدن الريفية الصغيرة يدرك لماذا تتأصل العلاقات العشائرية في المجتمع الريفي وتغيب في الاقتصاد الصناعي والتجاري وحتى الخدماتي فالريفي وأسرته يزرعون ويحصدون ويسوقون إنتاجهم بأيديهم وعلاقتهم بالمستهلك علاقة موسمية بوجود المنتج ولا تربطهم به علاقات دائمة يمكن أن تؤسس لمصالح مختلفة تنتقل من البيع والشراء إلى علاقات لا بد أن تحكمها أسس وقوانين وهو ما يدعو إلى وجود نظام أرقى من العشيرة أو الأسرة وهو الدولة القانونية بشكلها العام والتي تكرس المدنية عبر تقاليد تفرضها السنوات والظروف والانصهار الجماعي في العملية الإنتاجية بكل مراحلها فالتاجر والصانع لا علاقة موسمية له مع مستهلكيه ومنتجه واضح ومحدد وله اسم وصفة وهو حريص على اللحاق به إلى أي مكان بعكس الريفي أو المزارع الذي ينتج سلعة بلا اسم ولا صفة سوى الاسم العام والصفة العامة بما يضمن انفكاكه من سلعته لحظة وصولها إلى السوق وبذا يصح ما قاله ماركس " إن تطور المجتمعات البشرية يحصل خارج وعي الإنسان وان قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وصراعهما هي القوى المحركة للتاريخ والتحولات الاجتماعية " فالرغبة وحدها لن تنقلنا إلى الدولة المدنية ولن ترسخ مفهوم المواطنة ما لم تقم علاقات إنتاج تستدعي ذلك فالدول الفقيرة أو الطفيلية والتي تعتاش على تقديم الخدمة للآخر تظل اقرب إلى الأسرة الجنينية وهي لا تحتاج للدولة المدنية كعائق أمام قدرة الأسرة الحاكمة على التسلط على ثروات البلد والتصرف بها ويصبح دور الكمبرادوري أو وكيل الغير في البلد بحاجة لتغييب الدولة المدنية لصالح النظام العشائري ليستقوي بعشيرته ضد صحوة الشعب من الفقراء والمضطهدين أو المتنورين القادرين على إثارة الثورة ضد سلوك العشيرة المسيطرة أيا كانت.
الدولة الخادمة في الشرق هي دولة اقتصاد قائم على الوظيفة والتي تصبح فيها الدولة هي البقرة الحلوب للفرد بدون الأرض أو الآلة وبالتالي يغيب دور الفرد بغياب مكانته وتحتل الدولة مكان مجمل العملية الإنتاجية وكما أشرت في مقالات سابقة أن الدولة في الشرق هي مصدر الثروة وفي الغرب الثروة هي مصدر الدولة فهناك فرق كبير لان الدولة في الشرق ونحن منهم تلعب دور المغيب للفعل الإنتاجي لصالح الدور الاستهلاكي للفرد وتشجع ذلك وحين غيب نظام القذافي مثلا الدور الإنتاجي لشباب ليبيا جعل منهم مجموعة من الأفراد بلا مكانة ولا دور وترك العشائرية مرتعا يعيش في الفراغ والفوضى حتى وصل الأمر به لان يكون ضحية فعلته تلك بنفس الأدوات التي سعى لتحييدها عبر توظيفها بلا معنى عملي فجاء المردود سلبا مع السنوات وعادت العشيرة التي أبقى عليها كحافظ لحالة الفراغ والفعل الهامشي لمجتمع لديه المال بدون عمل ليصبح ذلك رصاصة بيد العشيرة التي لا بد لها من أن تأخذ مكان الدولة الراغبة بذلك حماية لمصالح عشيرتها إن جاز التعبير.
وهذا أيضا ما عاشته بلادنا بعد تأسيس السلطة فمن عمال وفعلة ومناضلين وانشغال وطني تحول جميعه ارتجاليا وبقرار ودون أن يتغير الواقع فعليا بين ليلة وضحاها إلى موظفين برواتب ورتب رمزية في معظم أحوالها مما يسمى بالبطالة المقنعة والتي تفتح شهية الفكر المتخلف على الظهور من جديد فتغيب القيم الجماعية المدنية ومعاني المواطنة لصالح الفردية الباحثة عن مكان تصب فيه حاجتها للجماعة فتجد في العشيرة بيئة خصبة لذلك وحتى ينجح فلا بد له من تغييب القانون والقيم المدنية وقيم المواطنة لصالح العشائرية وذهنيتها ليتمكن من إقامة حصنه الذي يحمي به مكانته ووظيفته التي يدرك قبل غيره أنها بلا هدف وبلا سبب وبلا مبرر كجزء من منظومة لذا يندفع بحاسة الخوف للاحتماء بما قد يجده وسيلة لمواجهة من قد يسائله فالموظف الذي حصل على وظيفته بواسطة النسب بحاجة هو للدفاع حتى الموت عن هذه الواسطة وفكرها وهذا ما جعل دور السلطة والأحزاب والفصائل يتراجع لصالح ذهنية العشيرة قبل العشيرة فنحن نجد ذلك بتجليات عجيبة فليس النسب وحده أساس الواسطة بقدر المكانة في هذا النسب والدور المرجو من الشخص مما يفكك كليا كل الروابط سوى رابطة الخوف والهيبة القائمة على القوة والارضاخ.
العشائرية السياسية:
في المناسبات الانتخابية والمفصلية في الأحداث السياسية الفلسطينية كتشكيل الحكومة مثلا أو الانتخابات التشريعية تطفوا على السطح حكاية عجيبة غريبة فتسعى الفصائل جميعها وبلا استثناء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار للبحث عن مرشحين يملكون القدرة على الفوز وعادة ما تلجأ هذه الفصائل إلى خارج أطرها إما بين العشائر أو حتى بين الأفراد الذين تعتقد أن لهم حظا بين الجمهور وهي كثيرا ما تبتعد عن قوائم عضويتها وحين يدور الحديث عن تشكيل حكومات جديدة تظهر حكاية حكومة الكفاءات الوطنية وتصبح العضوية الفصائلية أيضا خارج السباق وهذا السلوك يعتبر اعترافا مباشرا من قبل هذه الفصائل والقوى بان من في عضويتها ليسوا الكفاءات القادرة ولا الأفراد الجماهيريين الذين من المفترض بهم أن يكونوا قادة جماهيريين مناضلين ومضحين ويعترف الجمهور بأفضليتهم بسبب من نضالهم أو كفاءتهم أو إخلاصهم وإذا كان ذلك غير موجود في الفصائل فما مبرر وجودها إذن بهذا الإصرار سوى أنها نفسها تحولت إلى عشيرة لمن لا عشيرة له أو أنها عشيرة للاستقواء على الواقع عبر استخدام اسم الفصيل غطاء لاسم العشيرة فنجد العطاءات والمنح والمناصب لا تذهب للعشيرة السياسية بل بغطائها للعشيرة الأبوية لهذا القائد أو ذاك فكل قائد ومتنفذ تجد من يحملون اسم عائلته هم بطانته الأقرب وهم قادة مؤسسته ألا يعني ذلك أن المؤسسة الفصائلية الفلسطينية ساهمت في تعميق الذهنية العشائرية بين الناس وكرست مفاهيمها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية.
العشائرية متفشية أصلا في الفصائل الفلسطينية قبل قيام السلطة الفلسطينية فغياب الديمقراطية وتداول السلطة في الفصائل نفسها وبقاء قادة هذه الفصائل على رأسها حتى القبر وفي ما عدا المرحوم الدكتور جورج حبش وحزب فدا فان أيا من قادة الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية لم تجر أي تعديل أو تغيير في قياداتها ولم يتم حتى التفكير بتداول السلطة في المراكز القيادية لهذه الفصائل رغم غياب العمل السري لصالح العلني بعد اتفاقيات أوسلو مما حول هذه الفصائل إلى شركات مساهمة خاصة وعشائر بكل ما تحمل الكلمة من معنى وأصبح النظام الأبوي المفترض انه عشائري نمط حياة الفصائل السياسية بما فيها اليساري والعلماني وبذا فان الذهنية العشائرية تتأصل أكثر فأكثر ما دام أصحاب المصلحة في هذه الذهنية هم طلائعي وقادة هذا الشعب المفترضين.
بقلم
عدنان الصباح