عن مدينة نابلس المكلومة

بقلم: عبد الستار قاسم

نابلس مدينة فلسطينية يبلغ عدد سكانها حوالي 200000 نسمة، وهي قديمة قدم التاريخ المدوَّن. يقول المؤرخون إن الكنعانيين الذين وصلوا الديار الشامية مع الحملات الأمورية من شبه الجزيرة العربية حوالي سنة  1500 قبل الميلاد هم الذين بنوا المدينة وسموها "شكيم" والتي تعني الأرض المرتفعة أو المنكب. تقع المدينة على جبلين أو بين جبلين وتمتد إلى سفوحهما، ويبدو أن الكنعانيين قد اختاروا موقعها بين الجبال ليسهل الدفاع عنها.

 الجبلان شمالي ويرتفع حوالي 960 متراًعن سطح البحر وقمته تقوم عليها الآن منشأة تجسسية صهيونية، وجنوبي يرتفع حوالي 850 متراً، ويضم على قمته مقدسات الطائفة السامرية الموجودة بنابلس والتي تشمل مكان افتداء اسحق بكبش إلهي وفق معتقدات السامريين، والمكان الذي كلَّم فيه رب العالمين سيدنا موسى عليه السلام. يتوسط الجبلين سهل وينابيع مياه كانت تمد المدينة بالكثير من المستلزمات الغذائية بخاصة الحبوب والفواكه والخضروات. أما نابلس فاسم يوناني ومعناها المدينة الجديدة.(Neopolis)

مشهود لنابلس أدوارها الريادية في المجالات الحياتية الفلسطينية. فقد كانت نابلس رائدة القرار الوطني والسياسي قبل عام 1948، وكانت رائدة النشاط السياسي إبان العهد الأردني. كما وتعتبر نابلس مدينة المفكرين والشعراء والأدباء، وهي كانت دائما في مقدمة النشاط الثقافي والفكري في البلاد. لقد احتلت نابلس موقعاً متقدماً بما توفر لديها من كفاءات علمية وفكرية وشخصيات وطنية ملتزمة. كما أن المدينة معروفة بالحلوى الشامية المشهورة وهي الكنافة. لقد خرجت الكنافة من نابلس وعمت بلاد الشام، كما أن الصابون النابلسي معروف جيداً في الأسواق العربية.

تشتهر نابلس ببلدتها القديمة التي تعتبر أعرق بلدة قديمة في بلاد الشام. إنها بلدة متميزة بعمرانها وزخرفتها المعمارية وبيوتها التي توفر الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف. وهي مشهورة أيضاً بآثارها الرومانية البيزنطية واليونانية والإسلامية. فيها مساجد وكنائس قديمة، وتحوي مدرجاً رومانياً وأعمدة وزخارف متنوعة. وإذا حصلت نابلس على المساعدات المالية اللازمة فإنها ستصبح محجاً للسواح الداخليين والخارجيين. وبالقرب منها تقع مدينة سبسطية المشهورة بآثارها الإسلامية والبيزنطية والتي تشكل معلماً أثرياً فلسطينياً هاماً.

بدأت مكانة نابلس تهتز بعد انتفاضة عام 1987 عندما أساء العديد من الشباب المتنفذين في الشارع إلى التركيبة الاجتماعية للمدينة، وأثروا سلباً على نسيجها الفكري والعلمي. لقي هؤلاء الشباب دعماً معنوياًومادياً من منظمة التحرير الفلسطينية ظنا منها أنهم يملكون عصا سحرية لإخراجها من مآزقها. وبسبب هذا الدعم أخذ يظن هؤلاء الشباب أنهم هم قادة البلاد، وأنهم هم الذين يجب أن يديروا دفتها وتسييرها بالطريقة التي يرونها مناسبة، علماً أن قدراتهم العلمية والمهنية والإدارية محدودة جدا. أدخل هؤلاء الشباب سواء في نابلس أو غير نابلس البلاد في متاهة سياسية. فقد أُزيحت القيادات الاجتماعية والسياسية جانباً، وظهرت رموز شبابية جديدة لا تعرف كيفية إدارة الأمور، وأخذت الأوضاع المختلفة تتدهورفكان الأمر خطيراً، لكن منظمة التحرير لم يكن لديها العلم والمعرفة لتدرك خطورة ما يجري.

تناقلت وسائل الإعلام قبل مجيء السلطة الفلسطينية أن مدينة نابلس لن تقبل اتفاق أوسلو وأن نهايته ستكون في نابلس. استند التحليل إلى أن المدينة لا تقبل الذل والهوان، ولا تتعايش مع الظلم، ومثلما كانت محركاً رئيساً ضد الانتداب البريطاني وضد الحكم الأردني وضد الاحتلال، فإنها ستقف ضد اتفاق أوسلو وتبعاته.فتبنَّت السلطة الفلسطينية سياستين وهما: تنصيب أناس غير أكفياء  وغير مهنيين على رأس المؤسسات الرئيسية في المدينة فكانت السياسة الأولى تخرب المؤسسات وتبعدها عن خدمة المواطنين بالشكل السليم، وتتبنى الوساطات والمحسوبيات كطريقة مثلى للتوظيف وجعلها فئوية فصائلية. أما الثانية فكانت كفيلة في دفع الناس نحو حل المشاكل عبر النفوذ والقوّة بدل التصالح والقضاء، الأمر الذي مزق النسيج الاجتماعي وحول العلاقات الاجتماعية إلى علاقات قوة وشك ما بين الناس.

نجحت السياستان، والناس صمتوا ولم تشأ السلطة أن تكون في مقدمة القامعين والمعتدين لكنها تركت الفوضى في المدينة التي عاث فيها الاضطراب وفقدان الأمن إلى درجة أنه لم يعد بمقدور الغيورين على نابلس وأهلها أن يأملوا بإعادة أمور المدينة إلى مجاريها. فالعابثون راكموا النفوذ وازدادت أعدادهم بصورة كبيرة وتنوعت الأسلحة بأيديهم. وباتوا يملكون القوة التي تؤهلهم للسيطرة على البلد. هنا اصطدموا بالسلطة لأن السلطة تريدهم تحت طوعها، وهم لم يعودوا يقبلون بهذا الدور. تضاربت المصالح وكل طرف يريد أن يثبت أنه سيد المدينة.

هل ستنتهي مأساة المدينة هنا؟ ما زال المشوار في بدايته. فما الحل؟ لا حل إلا إذا تحولت السلطة الفلسطينة إلى مؤسسة وطنية، وهذا غير ممكن ما زال اتفاق أوسلو قائماً. فأغلب شباب نابلس يتميزون بأخلاق رفيعة وحسن تعامل مع الآخرين. كما أن أغلب سكان المدينة غير راضين عما يجري. ولهذا تحتاج نابلس إلى إعادة تنظيم وترتيب في اعتمادها على أبناء المدينة ومنهم آلاف الأكفياء القادرين على صونها والمحافظة عليها من العبث والاستهتار.

د. عبد الستار قاسم