تغيير سياسات أثبتت فشلها

بقلم: علي الصالح

خير وسيلة للدفاع الهجوم، قول منذ الأزل، كان ولا يزال قولا فعالا يحتذى.
ورغم ذلك فلم يعتد العرب عموما والفلسطينيون خصوصا، على ممارسته لا قولا ولا فعلا، لا في الحروب العسكرية ولا في المعارك السياسية، ولم يتعلموا من دولة العدو التي مارست هذا القول فعلا في كل الميادين العسكرية والسياسية التي بدأت مذ كانت مجرد عصابات مسلحة، وحتى يومنا هذا باستثناء حرب واحدة سرعان ما تداركت أمرها وغيرت مسراها.
إسرائيل دوما في حالة الهجوم، سواء كان ذلك عسكريا أو سياسيا، وندرك أنه ليس بمقدورها أن تخسر حربا لأن في ذلك نهايتها، لذا لا بد أن تبقى يقظة متفوقة ومتقدمة على "أعدائها" أو من تبقى منهم في هذا الزمن الذي نعيشه والأوضاع المتردية التي تمر بها المنطقة، لهذا فهي لا تستطيع أن تكون في أي حال من الأحوال في وضع دفاعي على أي من الجبهات.
وبتبنيها هذا القول واصلت إسرائيل تحقيق انتصاراتها على محيطها العربي، واحتفظت دوما باليد العليا على"أعدائها العرب وغيرهم، لانهم، يفكرون في ما "سيفعلونه" أمس وليس غدا، وليس في ذلك تجنيا على أحد، هكذا كانوا وهكذا هم الآن وهكذا سيكونون في المستقبل إذا لم يغيروا سياساتهم، و"لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
حصل ذلك في حرب 1948 فخسرها العرب ووقعت النكبة وضاع الجزء الأكبر من فلسطين. الشيء ذاته حصل في حرب حزيران 1967، التي أطلق عليها العرب اسم النكسة ووصفت خطأ بحرب الأيام الستة، وهي في الحقيقة حرب اليوم الواحد أو للدقة حرب الـ36 ساعة، وفقا لتجربتي الشخصية وكنت صبيا، باعتباري ابن قرية حدودية وهي قرية شويكةً شمال الضفة الغربية، وشاهدت الجيش الإسرائيلي وهو يقتحم القرية من دون مقاومة في اليوم التالي للحرب، أي في يوم الثلاثاء الموافق السادس من حزيران.
وانتهت الحرب بهزيمة ثلاثة جيوش عربية كان يفترض أنها كانت في حالة استنفار تستعد لحرب تحرير الجزء المحتل من فلسطين ففوجئت وهي التي كانت تدق طبول الحرب، بحرب تشنها دولة الكيان الصهيوني، ليضيع ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) تضاف إليها صحراء سيناء حتى قناة السويس وهضبة الجولان السورية. والسبب طبعا "خير وسيلة للدفاع الهجوم" يضاف إلى ما تقدم طبعا "التهويش" العربي ومعرفة اسرائيل للعرب أكثر من معرفتهم بانفسهم، إضافة إلى عناصر اخرى ليس أسوأها عدم الاستعداد لتلك الحرب.
وأثبت العرب صحة هذه المقولة مرة واحد على مدى عقود المواجهة مع العدو، عندما باغتت القوات المصرية والسورية اسرائيل في حرب اكتوبر عام 1973، لكن سرعان ما نجحت اسرائيل في تغيير مسار الحرب وباغت جيشها بقيادة إرييل شارون القوات المسلحة المصرية، في اختراق قناة السويس وفتح ثغرة أصبحت تعرف بالدوفرسوار  ومحاصرة الجيش المصري الثالث في الجانب الغربي لقناة السويس وبقية القصة معروفة.
ما تقدم ليس جلدا للذات لكنه الواقع المرير، كان يمكن الأخذ بالمثل القائل "عفى الله عما مضى" و"نحن أولاد اليوم ولننسى ما مضى" ولنبدأ مرحلة جديدة، لكن العرب وبعد أن صمتت مدافعهم وأسقطوا الخيار العسكري وأصبح "السلام خيارهم الإستراتيجي والوحيد" من دون مقومات تدعم هذا الخيار، فشلوا أيضا في إدارة معاركهم السياسية كما في حروبهم العسكرية، جراء التخبط والتعامل بالأسلوب الانهزامي نفسه.
من هنا وحتى آخر هذا المقال ساستبدل كلمة العرب بالفلسطينيين، بعدما تحول الصراع من صراع عربي- صهيوني إلى صراع فلسطيني صهيوني، وبعدما نفض النظام العربي الرسمي يده من قضية فلسطين، وبعدما أبرم بعضهم معاهدات سلام مع اسرائيل، واكتفى بلعب دور الوسيط وأحيانا تكون هذه الوساطات لصالح الكيان الصهيوني، بينما البعض الآخر يطبع وينسق معها سرا ومنهم من ينتظر خجلا.
واقول بكل ثقة إن الضعف والتخبط الذي نحن فيه، ليس ناجما عن ضعف في القضية الفلسطينية، فهي بالتأكيد أقوى بدرجات من ترسانة السلاح الاسرائيلية، ولدينا اوراق قوية تزعزع جذور الكيان لو أُحسن استخدامها، بل ناجمة عن فقدان الاستراتيجية عسكرية كانت أو سياسية، ناجمة عن سوء إدارة وحتى أكون أكثر قسوة، وعدم ثقة بالنفس الناجمة عن الاحساس بالهزيمة في دواخلنا، التي كرستها الهزائم العسكرية على مدى العقود العديدة الماضية.
وحتى لا يكون مصير المعارك السياسية كمصير الحروب العسكرية، أو بالاحرى حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، لا بد من التخلص من شرنقة الخوف التي وضعنا فيها أنفسنا ونتعرف من جديد على مواطن قوتنا وأسلحتنا القانونية، والوقت ليس متأخرا لنبادر بالهجوم السياسي في اطار استراتيجية تجعل حكومات اسرائيل تدور حول نفسها وتضعها في دوامة المدافع التي تخبطنا فيها على مدى سنوات الصراع. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الاشتراط على دولة الاحتلال قبل توقيع اي اتفاق سلام معها، إن لم يكن في الوقت الحاضر ففي المستقبل:
ـ الاعتراف بمسؤوليتها التاريخية عن النكبة وتشريد مئات آلاف الفلسطينيين عن ارضهم ووطنهم عبر سرقة الارض والمجازر التي ارتكبتها عصاباتها. حق لا نتنازل عنه بأي شكل من الاشكال.
والشيء بالشيء يذكر هناك اصوات يهودية بدأت تطالب بذلك، فقد دعا الكاتب الصحافي الإسرائيلي البارز يارون لندن، للاعتراف بالحقيقة التاريخية وبارتكاب الصهيونية جرائم تهجير وتدمير وقتل في حالات غير قليلة. ويقول إن من يدعو الآخرين للندم والتوبة واللطم على الصدور اعترافا بذنب، عليه أن يطلب ذلك من نفسه أولا. وقارن الكاتب بين تجربة اليهود في بولندا وتجربة الفلسطينيين.
ـ الاعتراف بقرارات الامم المتحدة التي قام على اساسها الكيان الصهيوني، بما فيها قرار التقسيم رقم181 وقرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين رقم 194 وغيرها من القرارات. ومطالبة المجتمع الدولي بتطبيق قراراته، أعرف أن ذلك سيسقط على آذان صماء، لكن علينا أن نتعلم اسلوب ‘الزن" من عدونا، فهذا كما يبدو هو الاسلوب الناجع في هذا العالم.
ـ سحب الاعتراف باتفاق اوسلو وما ترتب عليه من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة اسرائيل، والمطالبة بان يكون الاعتراف متبادلا بين دولة ودولة، وقد تطرق البعض من المسؤولين الفلسطينيين عرضا وفي لحظة غضب إلى هذا الموضوع،
وللتأكيد على جدية هذه المطالب وإعطاء مصداقية لأنفسنا ولمطالبنا، يوقف التنسيق الامني حالا ومن دون تردد، كما يلغى الاتفاق الاقتصادي الجائر.
ـ رفض أي اجراءات أو خطوات تهويدية اتخذتها سلطات الاحتلال في القدس الشرقية، خصوصا في الحرم القدسي والمنطقة المحيطة، ارتكازا على توصية لجنة عصبة الأمم المتحدة عام 1930، التي شكلت بناء على طلب من حكومة الانتداب البريطانية للتحقيق في أحداث ثورة "البراق" عام 1929. وأقرت اللجنة أن للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي للمسجد الاقصى (البراق) الذي يطلق عليه اليهود حائط المبكى، باعتباره جزءا لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف، كما تعود للمسلمين ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة (دمرتها إسرائيل في الايام الاولى من الاحتلال واطلقت عليها اسم حارة اليهود) المقابلة للحائط. وأقرت اللجنة ايضا انه لا يجوز لليهود جلب أي أدوات عبادة أو وضع مقاعد أو سجاد أو كراسي أو ستائر أو حواجز أو أي خيمة جوار الحائط، لأنه ملك للمسلمين (تقرير اللجنة المقدم لعصبة الأمم عام 1930).
ـ عدم الانجرار والوقوع في مستنقع المعارك الجانبية التي تحاول حكومات الاحتلال جرنا إليه لابعادنا عن الهدف الاساس. ووصلت الوقاحة بسلطات الاحتلال الحديث عن املاك كثيرة لليهود وسط الخليل قبل قيام اسرائيل وهم يستردونها، من دون أن يسمعوا اصواتا تطالبهم باسترداد حيفا ويافا وعكا وصفد واللد والرملة وبئر السبع واسدود وعسقلان وبيسان وغيرها. يحب الا نقف مكتوفي الايدي مشدوهين نتلقى فقط اللطمة تلو الاخرى.
ـ يجب الا نظل أسرى المفاوضات العبثية ومطالب وقف الاستيطان والافراج عن الاسرى، بينما الارض تسلب والاستيطان قائم وعماية التهويد مستمرة.
ـ وقف ترديد عبارة "السلام خيارنا الاستراتيجي الوحيد" فهو مصطلح خائب ويعكس عجزا في غياب الروافد الداعمة.
باختصار وبعد أن اثبتت السياسات السابقة فشلها، ليس خطأ أن نعيد النظر في مجمل هذه السياسات التي اوصلتنا إلى ما نحن فيه الان، وستنتهي بنا في قاع جديد لا خروج منه، والعمل على وضع استراتيجية عمل هجومية جديدة ربما تحتاج إلى وجوه جديدة قادرة على تطبيقها وتنفيذها، مدعومة بتوفير مقومات الصمود على الارض ومقاومة شعبية حقيقية بكل معاني الثورة الشعبية، وتحديث وتثوير المؤسسات بكل اشكالها.

علي الصالح
كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"