مع الشاعر الجزائري شاكر بوعلاقي

يلقي الشعر بظلاله الخضراء على مساحة المودة التي تسكن الذاكرة فيصير قاموساً نستذكر به متع حياتنا، أيام تكون الأنثى خط شروع لكل رغبة تعترينا لاكتشاف هاجس ما، حتى لو كان طلسماً سليمانياً.
والشعر ذاكرة العبادة، ويمتهنه الرجال لرغبة هو في أن يثبتوا أن قلقهم مصنوع فضة من فيما قلوب كل النساء مصنوعة من ماس. وهن رائيات بفطرة المهد فيما رائية الرجل تنبع من مشقة الحياة. الشعر هو اغتراب يسعى للوصول الى مثاليته، تلك المثالية التي نشعر بتيهها متى أحسسنا بقرب دنو أجل الواقع، لتأتي الفنتازيا وتقيم في الرأس مأتمها، وهو ما يطلق عليه أرسطو تسمية الخلق الشعري .
الشعر خلق ميتافيزيقي. ينوء بقدر أرجواني يتعدد مع افتراضات الكشف عن مكامن الحس، الذي عندما تمسكه أصابعنا تقودنا القناعة بأننا أمسكنا حجارة حيان: تلك التي كان جابر يفكر بصناعتها من خلال خلط العناصر وتذويب الشاردة بالواردة. وحين لم يستطع ذهب الى مخيلة التصور في هاجس اليونانية الصافية، وقال : ما يغيثني في بحثي سوى شجني. وهو ربما كان يقصد الشعر.
الشاعر الجزائري شاكر بوعلاقي واحد من باحثي هذا الشجن. وهو يملك من شغف التحدث بمشفرات الشعر واللعب على موسيقى الضد وعكسه الشيء الكثير. وهو أيضاً من الذين يستطعون إيجاد ضرورة في جعل الشعر رسالة نوصل بها صوتنا وطموحنا وموهبتنا.
ومنذ ديوانه الأول وحتى ديوانه الأخير كشف هذا الجزائري الحالم بمتوسطية تذهب بالزرقة الى أي مكان في العالم، كشف نبوغ أن تكون القصيدة عالماً لكشف توهّج الألوان وقيمتها الكونية.
الذي يقرأ شاكر بوعلاقي، سيكتشف معايير حضارية لا تقف عند فاصلة الرهبة الإجتماعية. وقد مكنته ثقافته الألسنية من تجاوز حدود الإهتمام بالمحيط وشرقيته.
فكانت ترجماته تعبر عن ثقافة شاسعة مع الآخر الذي يمثل طرفاً في عولمة الكون.
ولأنه مولع بالإلتقاء بالآخرين الذين يصنعون جسد الحلم في العالم الجديد، كما مع نزار قباني وغادة السمان ومحمود درويش، ها هو يقع اليوم في حبال الالتقاء مع آخر ، على خلفية موضوع كتابه الشعري الأخير “مملكة العشاق”.
الحوار مع شاكر بوعلاقي يندرج في فاصلة الإنتباه الى ما أقوله وتقوله ضمن مدارات الوعي الشعري في ذاكرته، وهو في أكثر تناولاته يتحدث عن الآخر وتأثيراته على رجل يرغب من خلاله بأكتشاف ديمومة حب أو موت جميل.
كان اللقاء مخططاً له منذ عام تقريباً لكن الحياة ومشاغلها لا ترحم حتى مواعيد الثقافة. غير أن ذاكرتي عادت لتلغي أسئلة الأمس ولتبدا بأسئلة اليوم:
شاكر بوعلاقي أسمع في ديوانك الجديد صرخة “اعترفات امراة عاشقة.
لماذا تشحنك الرومانسية الى تحدي سلطة الذكر؟ هل الشعر عندك خنجر تدافع به عن نفسك تجاه سلطة روحية أو طبيعية مضادة؟
أنا أتحدى كل سلطة وليس سلطة النساء فحسب.
أنا رجل نفسي ومديري ورئيسي جمهوريتي وملكي. أقول “نعم” عندما تكون الـ”نعم” خياري” وأقول “لا” عندما أكون مقتنعا بضرورتها.
لا هو يريد إخضاعي، ولا أنا أرغب في السيطرة عليه.
ثم ليست الرومانسية ما يشحنني فأنا لست رجل رومانسية بل شرسة عموما، التهم الحياة التهاما وأعيشها واكتبها بأظافري.
والخنجر الذي تذكره لا ادافع به عن نفسي بقدر ما أغرزه في جسمي وروحي الخاصين.
ماهي المراة في نظرك
عندما احببت امراة للمرة الأولى ، وقعتُ في غرامها ووجدتُ فيها جوابا عن أسئلة كثيرة كانت تراودني، وأحببت ان أروي تلك المرأة الأولى على طريقتي، فرحت ألاحق أخبارها وظلالها من مكان الى آخر. انطلقتُ من قصّتنا لكني تجاوزتها وأعدتُ اختراعها على هواي شعريا.
أكثر ما احببت فيها هو أنها المرأة الأصلية، التي خلقها الله من التراب على غرار آدم، المرأة المكتمل قمرها الأسود بقمرها الأبيض، والتي ترمز الى الوجه الحرّ والأبيّ والشهواني من النفس الأنثوية.
كتبتِ “اعترافات امراة عاشقة ” في شكل قصيدة ومشهد درامي ونص نثري مفتوح. لماذا هذه الأشكال الثلاثة؟
لقد اردتُ بهذه الأشكال الثلاثة، التي كان يمكن أن تكون اربعة أوحتى عشرة، أن أعبّر عن حرية الجسد الشعري وتعددية احتمالاته.
أنا أحب الانحناء على عجينة قصيدتي، شرط ألا تأتي نتيجة هذا الانحناء افتعالا شكلانيا مجانيا لا يؤدي الى اي تجديد شعري، بل الى دوران في حلقة مفرغة، حلقة البحث عن الشكل المختلف الصادم على حساب مستوى النص الشعري.
فالتجديد الثوري لا يكمن بالضرورة في القطيعة مع ما سبق، وثمة دائما خيط يربط ما كان بما سيكون، مهما كان مختلفا عنه ومتعارضا معه
لقد كتبتُ بكل بساطة القصيدة التي نادتني، بالجسد الذي شعرتُ أنها هي جسدها وأنها تطالب بها، ولم أكن أبحث عن استفزازات شكلانية “بالقوّة” من خلال طرائق مشيي نحو القصيدة، لأن استفزازي هو قصيدتي في ذاتها، لا في قطيعتها أو عدم قطيعتها مع الأشكال التي سبقتها او سوف تليها.
أنت تتثقف بألسنية جديدة هي نتاج وعي قراءات متحضرة واللهجات الأخرى.
الشعر هو نهم يغنيني كثيرا من دون شك، غالبا من حيث لا ادري، اذ يتغلغل من لاوعيي الى وجداني الشعري ويتكثف فيه كالغيم قبل المطر. اهمية متقن اللهجات تكمن في أن يتمكّن في الدرجة الأولى من “هضم” الهبات الموضوعة بين يديه، اي أن يتمكّن من جعل الدماء الجديدة التي يُـحقن بها تـنسرب في شرايينه و”تتلوّث” بدمائه لتصير جزءا شرعيا من لاوعيه اللغوي، من دون أن تمحو خصوصيته، أي ان ينجح في قتل “الآباء” المؤلفين في داخله فيحيوا به بدل أن يحيا هو بهم.
وهل من الضرورة أن يحتاج كل شاعر الى لهجة اخرى؟
لا، ليس ذلك ضروريا، وأنا لا أهوى التهام لهجات جديدة لأن الأمر “ضروري”. أفعل ذلك، مثلما ذكرت، لأنه شغفي. وشغفي يستفزني ويزيدني عطشا كلما شربت. كل لهجة تحمل لي معها حقيقتها وآلياتها وطرائـقها. على الشاعر أن يعيش اللهجة التي يكتبها.
أن يكونها خصوصاً. وإلا صارت الكتابة لهجة خالية من الحياة أو شيئاً عادياً جداً.

على الشعر أن يخترق الحجب والسطوح ليصل الى الأعماق، الى المناطق المظلمة من اللهجة ، حيث لا يصل سوى الذين يملكون القدرة بالكلمات على الوصول الى هناك.
ولأجل ذلك على الشاعر الذي يقرأ ويكتب شعراً بلهجات متعددة أن يكون هذه اللهجات، وإلاّ ذهب ما يكتبه هباء، كغيمة صيف عابرة. أنا أحب استكشاف نفسي باللهجات الأخرى. أغدو مختلفا مع كل لهجة، وأريد أن أحاول نقل أصوات “الجمانات” اللواتي فيّ.
لقد حققت لقاءات كثيرة. هل تحقيق هذه اللقاءات هو بالنسبة اليك بمستوى الحصول على مادة كتابة القصيدة؟
لا شيء يعادل نشوة ولادة فكرة قصيدة في روحي. إنها لحظة جماع مقدّسة بين مخيلتي والعالم.
واولئك الذين تلتقي معهم، هل يمنحونك حافزاً ما لصناعة نص جديد؟
كل لقاء مع الآخر هو عملية إغناء، أكان يتم وجها لوجه ام بواسطة الكتاب. لكن محفزّي الحقيقي على التجدد هو طبيعة هويتي المفتوحة على احتمالات كثيرة، والدائمة التموّج والتحوّل، ليس لأنها تؤمن أنّ التغيّر حقّها فحسب، بل لأنها تدرك انه شغفها أيضا: فأنا لا اريد ان أنحصر بشكل وأتحدد بلغة أو بجسد او بإسم أو بصفة، وأتوق دائما الى التفلّت من التعريفات التقليدية المقررة سلفا، والى اختراع نفسي باستمرار بأقصى درجة ممكنة من الحرية، من دون ان أجرجر ورائي ما كنته وما آمنت به وما أحببته في الماضي، وكأنها سجون تطاردني الى المستقبل. أحبّ أن ابدأ من جديد كل لحظة، حتى عندما اكرر نفسي.
لذلك فإنّ نهاراتي سلسلة من عمليات البناء والتدمير ومعاودة البناء الى ما نهاية، وينطبق ذلك على الشعر واللغة مثلما ينطبق على علاقاتي الانسانية وحياتي عموما.
الرجل الجزائري ، هل هو مثقف فضائيا أم مثقف كتب؟
لا احبذ التعميمات، ولا أحب أن أكون ناطق بإسم الرجل الجزائري ، ولا بإسم الرجل عموما. جلّ ما استطيع فعله هو الحديث بإسمي. في رأيي ليس هناك شيء اسمه ثقافة فضائيات. الثقافة ننهلها من الكتب، لا من التلفزيون.
التلفزيون ضروري طبعا، فهو فسحة تسلية وترويح ممتع عن النفس، لكنه لا هو ولا غيره يستطيع ان ينوب عن الكتاب وأن يؤدي دور الكلمة الجوهري في التثقيف وتغذية الفكر والروح والخيال. ولست طوباوية في كلامي بل أتحدث عن خبرة. الكتاب أفضل عشيق

لى ما يطمح الشاعرشاكر بوعلاقي؟
تتجلي أمنيتي في أن أصل يوما لأكون سفير الشعراء والأدباء الجزائريين، لأرفع راية الشعر في الجزائر عاليا ولأشرف بلادي الجزائر وقد أهدى الشاعر شاكر بوعلاقي لعشاقه مقتطف من قصيدة " اني احبك "من ديوانه الجديد.

اذا مر طيفك امامي ضاع مني الكلام

وتوقفت عن كتابة الشعر ورميت
الاوراق والاقلام

ورحت سارحا في بحر عينيك

افتش عن كلمات في الحب
للقولها لك

اني احبك وكل ليلة اذوب بين
شفتيك كاقطعة سكر

اني احبك وياليتني اشرب من نهر نهديك دون ان اسكر

 

المصدر: الجزائر - وكالة قدس نت للأنباء -