عندما اقول انا يساري ، فهذا جزء من هوية فكرية تربيت وترعرعت عليها ، لانها تمثل لي عدالة ممكنة على أفضل وجه ممكن , يؤمن المفكر به , بضرورة أن تتقدم الحياة البشرية الى الأمام , عن طريق التحرر من كل أشكال العوائق الرجعية التي تقف حائلا دون التطور , بنسبية هادفة مرتبطة بالظروف الموضوعية السائدة , و حتى يتحرر الانسان من كل الموروثات الفلسفية أو الفكرية , السياسية أو الاجتماعية , وبالدرجة الأولى من الأعراف والتقاليد البالية , ومن التحجر والجمود بكل أشكاله , وفقا للمتطلبات التي يقررها الوضع الإنساني نفسه , من حيث رغبته بالتجديد , بحيث لا يبقى ذات النمط الواحد مسيطرا الى مالا نهاية .
امام ما تقدمت اقول ان الحياة عند اليسار تتلخص بالاستقرار , فلا يليق بكرامة الإنسان أن تصدر طبعة موحدة للإنسان , مهما كانت المبررات والذرائع , وبخاصة , عندما نستطيع كسب الحد المعقول من العدالة بين بني البشر , فاليساري يناضل من أجل توسعة العلاقة النضالية و السياسية , لتشمل الحرية الخاصة والفردية ,وكذلك الأسرة , ووصولا للحرية الشخصية , بوصفه الأكثر انفتاحا , والأكثر أملا بحياة أفضل , ولذلك فمن الممكن أن نجد اليساري , من المدافعين عن ثقافات الشعوب , لانه يمارس بفكره من اجل الحياة الأفضل.
لا يمكن الحديث عن حالة الانكفاء والتهميش التي وصلنا إليها اليوم دون مراجعة تاريخ الماضي ، والوقوف أمام الاخطاء على مستوى التكتيك والاستراتيجيا ، وهنا لا بد أيضاً النظر إلى الموضوع من منظور تاريخي جدلي يدقق ويتفحص الصيرورة التاريخية للقوى اليسارية ، وأهم المفاصل والمحطات التي مرينا بها ارتباطاً بالظروف الموضوعية والذاتية.
أن كثيراً من القراءات لتجارب القوى اليسارية التي تؤمن بهويتها الفكرية الشيوعية او التقدمية او الديمقراطية او القومية ، تجد نفسها عاجزة عن التأثير والفعل العملي على مستوى القضايا المهمة ، وانحصر جهدها في المستوى النظري ، حيث تمزقت الهوية الفكرية إلى هويات جهوية مجزأة، ولم تُنجز مهام التنمية والتحرر من التبعية للسوق الإمبريالية ، وتفاقمت المشكلات الاجتماعية التي عمّقت الفوارق الطبقية في المجتمعات العربية ، وانتشرت البطالة وتراجع مستوى التعليم والثقافة ، وهذا الأمر ترجم نفسه بالإثراء السريع لطبقة معينة استفادت من نفوذها حيث انتشر الفساد ، والمحسوبيات .
من هنا نرى إن مسألة وعي الواقع كإشكالية ، تفرض علينا مناقشة الرؤية ، ليس على المستوى النظري فحسب ، وإنما على مستوى القضايا العملية التي طرحها الواقع ذاته ، والمهمات والبرامج التي انبثقت عن هذه القضايا ، كي تفضي إلى وسائل حلّها وتجاوزها ، على اعتبار أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي وخاصة في فلسطين ودول المنطقة ، حيث يفرض علينا واقع الاحتلال مهمات إضافية أساسية تتعلق بمواجهة الاحتلال ودحره ، مثل هذه المهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية ، من قِبل جميع القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة ، التي عليها أن تسعى الى اقامة جبهة عريضة ، هي الصيغة الأكثر فعالية لإنجاز مهام النضال الوطني ، التي يندرج ضمنها مواجهة الاحتلال ، والتحرر من التبعية ومحاربة التجزئة ،
والوحدة, وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وكل هذا يجب أن يرتبط بفهم عميق لمسألة الديموقراطية .
وعندما نتحدث عن اليسار ارى من واجبي ان اتوقف امام وضع المرأة التي تلعب في المجتمع دوراً متميزاً ، ومن حقها ان تتساوى حقوقها مع الرجل في العمل وفي النشاط الاجتماعي السياسي, بعيدا عن اية اجتهادات وعادات وتقاليد وأفكار اوتكبيل حريتها وحجب حقها بأن تكون مواطنة كاملة مساوية للرجل في الحقوق والواجبات .
ان تحرير المرأة من قيود الاضطهاد والاستغلال هو إحدى المهمات الاساسية التي تواجه القوى الديمقراطية والتقدمية والثورية في البلدان العربية ، لأن معالجة آثار التخلف الاجتماعي المدمرة على المرأة والأسرة التي نجمت عن سياسات مشوهة وفي ظل ما تعيشه المنطقة اليوم من إرهاب تكفيري وحروب عدوانية، جرّاء الاحتلال وآثاره، والممارسات الإرهابية ونمو التيار الاسلامي المتطرف اضافة الى التقاليد الاجتماعية البالية، تستدعي من الجميع محاربة التمييز والعنف ضد المرأة بجميع أشكاله ، وخاصة بعد ان حققت المرأة مكاسب سياسية واجتماعية بفضل نضالها ونضال كافة القوى السياسية والاجتماعية التقدمية ، لهذا علينا إزالة جميع العوائق التي تقف حائلا امام مشاركة المرأة بالحياة السياسية والاجتماعية بصورة فعالة، وشن كفاح فكري مثابر ضد الافكار والتقاليد الرجعية ومساواتها بالرجل على صعيد التشريعات وتشغيل النساء في عملية الانتاج الاجتماعي،وضمان حق المرأة في العمل والأجر المتساوي مع الرجل عند قيامها بعمل ما وإلغاء التمييز الواقع عليها في العمل، اضافة إيلاء قضية المرأة ومكانتها داخل العائلة وفي المجتمع اهتماماً مميزاً على الصعيدين الوطني والاجتماعي، ووضع استراتيجية وطنية شاملة لإدماجها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتمكينها من ممارسة حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، وخاصة ان نضال المرأة على مختلف الجبهات النضالية كانت نموذجا متقدما فهي الشهيدة والجريحة والاسيرة والمناضلة والام والمعلمة والصحافية والقائدة السياسية وممثلة الدبلوماسية والفنانة والشاعرة والممرضة والطبيبة،فكل هذه الصفات موجودة في المرأة لذلك يجب تتعزيز دورها من أجل أن تبدع أكثر.
ان ما تواجه الأحزاب والفصائل والقوى اليسارية من أوضاع معقدة ومربكة في الميدان السياسي والفكري وحالة من الضعف والإرباك التنظيمي والإيديولوجي وضعف الصلة بالجماهير الشعبية، وفي حالة الاستمرار على هذه الحالة اللامنطقية، سوف يؤثر ذلك سلباً على دورها ومكانتها ووجودها ومستقبلها السياسي في المنطقة ، وهذا كله نتيجة غياب الممارسة الديمقراطية الحقيقية والابتعاد التدريجي عن النظرية العلمية، وكل ذلك بحاجة الى الابتعاد والتخلي عن ظاهرة الغرور والتكبر والتعالي الموجود لدى بعض قيادات وفصائل وقوى واحزاب اليسار ، وكما ينبغي على هذه القيادات ان تشعر بدورها ومسؤوليتها التاريخية اتجاه مصالح الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين والمثقفين الثوريين، كما يتطلب العمل على احترام العادات والتقاليد والمشاعر الوطنية والقومية والدينية في المجتمعات ، وهذه امور لا تقبل التأجيل أو المراوغة والتسويف، ، فهي أسس مبدئية وسليمة وواضحة، وهي قابلة للحوار السياسي ـ لأن اذا ما قامت القوى اليسارية بذلك فأن التاريخ والأجيال الثورية القادمة ستحاسب كل من يقف ويعرقل تطبيق هذه القضايا الملحة اليوم.
لهذا ارى ان امام كل اليساريين العمل على تعميق الديموقراطية الاشتراكية التي تعني ضمناً ليس الديموقراطية السياسية فحسب ، بل الديموقراطية بمفهومها الأوسع والأشمل, وبأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، لأن الديموقراطية الغربية أو الليبرالية ، ستظل خادعة طالما أنها لم تتح حيزاً واسعاً للاعتراف بالمنتجين كفاعلين سياسيين على مستوى الرقابة والقرار ، وبالتالي سوف تظل ديمقراطيتها ناقصة وشكلية.
ان المراحل التي مرت بها القوى اليسارية الفلسطينية تستدعي إعادة النظر في الكثير من القضايا وتحليلها تحليلاً معمقاً للوصول إلى وعي مطابق لإشكاليات الواقع يفرز على المستوى النظري برامج للخروج من هذه الأزمة المستعصية ، وعلى المستوى العملي التكتيك الملائم لإنجاز مهام تلك البرامج ، وخاصة بأن اداة الثورة وتطور منظمة التحرير الفلسطينية في مسارها التاريخي تتمثل في إقامة جبهة وطنية متحدة لتسهم جميع القوى في هذه العملية الوطنية التاريخية ، مع كل القوى الوطنية والديقراطية والتقدمية العربية والعالمية ، من أجل إنجاز مهاتها الوطنية في تحرير كامل التراب الفلسطيني, وهذا يقتضي من اليسار العربي والفلسطيني مراجعة كاملة لكل المناهج والبرامج والمهمات المطروحة ، للخروج بفهم جديد يعيدنا إلى دائرة الفعل المؤثر في حركة الواقع .. على مستوى الاستراتيجيا والتكتيك الصحيح الملائم لظروف المرحلة الراهنة، من خلال فتح أوسع حوار بين أجنحة اليسار العربي ، لإعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه الواقع العربي ، من أجل نهوض حركة اليسار العربي مجدداً ، وفتح باب الحوار أيضاً بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية ، الماركسية, والقومية, والإسلامية المتنورة ، رغم الاختلاف على المستوى الإيديولوجي مع التيار الإسلامي فنحن نميّز بين التيار الإسلامي المقاوم للمشروع الإمبريالي الصهيوني, وبين التيار الظلامي الاستئصالي التكفيري الذي يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع العربي.
ختاما: لا بد من القول بأننا بحاجة الى فعل حقيقي ، لانه يبدو أن ثقل الماضي على عقولنا وسياساتنا هو الذي يعطّل إمكانيّة تحقيق الديمقراطيّة ،علينا أن نعلم جيّدا ان الشّعوب تملك ماضيا لكنّه لا يعطّلها عن أن تكون في حجم الزمان الذي تنتمي إليه، نحن نولد دوما في التّاريخ لكنّ التّاريخ لا يسجننا ، بل يدفعنا إلى المضيّ نحو تاريخ أفضل، لأن اليسار يتسع للجميع،ليس ثمة مستقبل في انتظارنا بل ثمة الكثير من العمل والنّضال اليومي العسير من أجل حاضر أجمل.
بقلم/ عباس الجمعة