لقد كان آباؤنا وأجدادنا أكثر ذكاءً منا في فهمهم ومعرفتهم للأطماع الصهيونية في فلسطين، وفي معارضتهم لهجرة اليهود إليها، منذ مطلع القرن الماضي، تحت ذريعة الحماية من الوحش النازي الأوروبي، كمأوى في البداية، ثم إقامة بيت قومي يهودي على أرض فلسطين، بادعاء استيلائهم على أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، ورفعوا شعار خطوة بعد خطوة، وسياسة المراحل، بالسيطرة على دونم بعد دونم، وإقامة المستوطنات على هذه الأرض الطيبة، فكان الموقف الفلسطيني التاريخي بمعارضة المخططات الصهيونية، ومعارضة الهجرة اليهودية لفلسطين، ومعارضة المشاريع والقرارات الدولية، بما في ذلك قرار التقسيم عام 1947، فبعد أن تمكنوا، وحاولوا استعطاف أهل البلاد، في سنوات الثلاثينات- كما جاء في كتاب "أرض الغزال" للكاتب الإسرائيلي "آرييه لوبا إلياب"- وبعد أن قويت شوكتهم لم يكتفوا بطرد مئات آلاف الفلسطينيين من وطنهم، ليصبحوا لاجئين في الشتات، بل أن رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" تمادى في وقاحته، باتهام الفلسطينيين بالتطهير العرقي، وبالتحريض والكذب والخداع، ورفضهم للسلام، ويلصقون بالفلسطينيين مزاعم التحريض، والتعطش للدماء، فالشيطان القومي الديني اليهودي خرج من القمقم، وأخذ يرفع رأسه ويكشف عن أطماعه التي حذر منها آباؤنا وأجدادنا منذ البداية.
في محادثة هاتفية بين "نتنياهو" والرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بتاريخ "16-9-2016"، قيل أنها تناولت القضايا المتعلقة بالمفاوضات الفلسطينية، وإمكانية استئناف الحوار الفلسطيني-الإسرائيلي المباشر، لكن مع تسرب هذا الاتصال، تبين أن الاتصال جاء للعمل على التهدئة بعد التوتر الأخير على الحدود السورية في هضبة الجولان، دون أي ذكر لدعوة الرئيس الروسي، لجمع "نتنياهو" مع الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" -الذي كان مقرراً بتاريخ "8-9-2016- فـ"نتنياهو" وحكومته يعارضون إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بل إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين لا أكثر، منزوع السلاح، مع بقاء القوات الإسرائيلية في غور الأردن لأربعين سنة، دون أي سيادة على الأرض للفلسطينيين، يتبين أن هذا اللقاء الذي بادر إليه الرئيس الروسي، لا فائدة ولا جدوى منه، وحسناً أنه أسقط من جدول الأعمال.
"نتنياهو" ساوى في تصريحاته بين عصابات المستوطنين وبين فلسطينيي الداخل- كما جاء على حاسوبه الشخصي- زاعماً أن إخلاء المستوطنين من الضفة الغربية المحتلة بمثابة تطهير عرقي، وأن المستوطنات في الضفة العربية لا تشكل عقبة أمام تحقيق السلام، معتبرا أن هناك مليوني فلسطيني يعيشون في إسرائيل لا أحد يعتبرهم عقبة أمام تحقيق السلام، محرضاً على القيادة الفلسطينية التي تطالب بدولة فلسطينية بشرط مسبق واحد، أن تكون خالية من اليهود، وهذا بنظره شرطا شنيعا يساوي التطهير العرقي، وهذا ما يجعل السلام مستحيلاً- حسب "نتنياهو".
تصريحات وادعاءات "نتنياهو"فيها مغالطات لا أول لها ولا آخر، ويريد من خلالها انتزاع شرعية المستوطنين في الأراضي الفلسطينية، حتى أن الإدارة الأميركية انتقدت تصريحات "نتنياهو" -الذي ساوى فيها بين المستوطنين والفلسطينيين في منطقة عام 1948- كما أن الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون"، كرر أمام مجلس الأمن الدولي "15-9-2016"، شجبه لتصريحات "نتنياهو" بقوله: " أشعر بالقلق من التصريحات التي أدلى بها "نتنياهو"، التي وصف فيها أولئك الذين يعارضون الاستيطان، كمؤيدين للتطهير العرقي، وما قاله "نتنياهو" ليس مقبولاً ومثيراً للحفيظة"، مؤكداً على أن المستوطنات غير شرعية وفقاً للقانون الدولي، وأن على الاحتلال الإسرائيلي -الذي يخنق ويستعبد الفلسطينيين- أن يصل إلى نهايته.
إن جريمة التطهير العرقي تطال الحركة الصهيونية بمختلف مؤسساتها وأذرعها، التي عملت على طرد الفلسطينيين من وطنهم، قبل قيام إسرائيل، وتابعت حكومات إسرائيل المتعاقبة التطهير العرقي بهدم أكثر من (500) قرية فلسطينية، وطرد أهلها ليصبحوا لاجئين في مختلف أنحاء المعمورة، ولا وجود لأي شبه للمقارنة بين المستوطنين المحتلين، وعرب منطقة الـ 1948، الذين يعيشون على أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم، لا يمكن مساواتهم بالمستوطنين، الحاقدين المغتصبين، والمخالفين للقانون الدولي، أما "نتنياهو" وحكومته فإنهم يكشفون عن المزيد من وجههم القبيح، ولا نتوقع من حكومة اليمين وحكومة المستوطنين أي خير.
"نتنياهو" يعيش مأزقاً داخلياً ودولياً، لهذا أخذ يهاجم ما أسماه بـ"نفاق" المجتمع الدولي، بالنسبة للمستوطنات، وهو يرفض تصريحات الغرب القائلة بأن المستوطنات هي العائق في وجه السلام، ويتساءل: "لماذا يعتبر اليهود الذين يعيشون في مناطق الدولة الفلسطينية عائقاً في وجه السلام؟"، ويعتبر موقف الفلسطينيين مثيرا للغضب، فما يقوله "نتنياهو" مغالطات، ومحاولة للتهرب من مأزقه، ويعتمد على مزاعم توراتية محرفة بأن الله منح أرض فلسطين لليهود، فالطبعة الجديدة من كتاب المدنيات الذي يجري تدريسه في المدارس الإسرائيلية، تندرج في حملات التضليل، والهجمة الشرسة ضد الفلسطينيين، لتشويه الحقائق، فهذا الكتاب يُكرس الحدود الإلهية في منح الأراضي الفلسطينية لليهود، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا اعتمدت الحركة الصهيونية على وعد بلفور لإقامة البيت الوطني اليهودي؟ وكيف أن إسرائيل اعتمدت، في إنشائها، على قرار التقسيم وليس على الخرافات التوراتية؟
الأجواء الإسرائيلية تتجه إلى العنصرية بل وإلى الفاشية والابرتهايد، ففي استطلاع نشرته جريدة إسرائيل اليوم، اعترف 52% من اليهود المستطلعة آراؤهم، أن إسرائيل أصبحت أكثر عنصرية، بينما دعا وزير الجيش "أفيغدور ليبرمان"- حسب جريدة "التايمز الإسرائيلية 12-9-2016"- إلى نقل مواطني إسرائيل العرب، إلى الدولة الفلسطينية المستقلة، في إطار أي خطة سلام، فعرب الداخل أبناء الوطن الأصليين أباً عن جد، يريدون التخلص منهم بكافة الوسائل والطرق، بينما صاحب هذه الدعوة مهاجر من الاتحاد السوفييتي السابق، ليس له جذور في فلسطين، وهذا هو التطهير العرقي بعينه، من جهة أخرى اعتبر رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست "آفي ديختر"، أن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية، يشبه القفز من مركز التجارة العالمي في أميركا، مثلما حدث بتاريخ"11-9-2001"، وهو انتحار مؤكد، أما "نير بركات"، رئيس ما يسمى ببلدية أورشليم-القدس، فحسب جريدة "هآرتس 8-9-2016"، تفاخر بمعاقبته للمقدسيين - الذين وصفهم بالشريرين- وبإعداد قوائم سوداء لملاحقتهم في قضايا جباية الارنونا وترخيص متاجرهم، وهدم مبانيهم، والحاخام الشرقي الأكبر "اسحاق يوسف"، زعم في خطبة دينية له ألقاها بتاريخ "27-3-2016"، أن الشرائع اليهودية تحظر على "الغوييم" أي الاغيار من غير اليهود- ويعني الفلسطينيين- التواجد بما يطلق عليه بأرض إسرائيل، إلا إذا قبلوا بالوصايا السبع التي نزلت على "نوح"، وإذا رفضوا فلنرسلهم إلى السعودية - حسب قوله.
لكن هناك قلة بين الإسرائيليين لهم مواقف أخرى فـ "جريدة هآرتس" نشرت مقالا للأديب الإسرائيلي "ب.ميخائيل"، جاء فيه أن المجتمع الإسرائيلي وصل إلى الفاشية الكاملة بنجاح كبير، ونزع الصفة الإنسانية عن الآخر من أبناء الديانات الأخرى أو العرق الآخر، وأن قادة إسرائيل يقودون البلاد إلى الانتحار، فيما يؤكد الروائي اليهودي الشهير "مايكل شوبون" الذي زار الأراضي الفلسطينية مؤخراً، أن الاحتلال الإسرائيلي أكثر فظاعة بكثير من نظام الفصل العنصري، وخلاصة القول، فإن دعوة إسرائيل إلى استئناف المفاوضات، في ظل هذه المواقف المكشوفة، بالنسبة لمستقبل الصراع، تعتبر الطريق نحو الانتحار.
انتهى ...
بقلم/ غازي السعدي