شمعون بيريز ذهب قبل ان يتحقق حلمه…ذهب قبل ان ينهار حلمه!

بقلم: عماد شقور

نكّست إسرائيل إعلامها يوم امس الاول الاربعاء 28.9.2016، حدادا على الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز.
وقبل ذلك بستة وأربعين عاما بالضبط، يوم 28.9.1970، نكّست مصر، والعالم العربي معها، الإعلام حدادا على الزعيم العربي، جمال عبد الناصر.
يومها، احتفل كثيرون في إسرائيل بخلاصهم من جمال عبد الناصر. واليوم، لا يحتفل الفلسطينيون، بغالبيتهم العظمى، بذهاب شمعون بيريز، لأنه ليس من عادات الفلسطينيين،، التشفي، ولا الرقص في جنازة عدوّهم. للموت حُرمة.
ذهب بيريز قبل ان يتحقق حلمه. كان يحلم بجعل إسرائيل دولة مقبولة في الشرق الاوسط العربي، تعيش باطمئنان، وفي اجواء هدوء واستقرار، مع من بقي من الفلسطينيين فوق ارض فلسطين، ومع المحيط العربي. كان، وما زال، شرط ذلك عقد اتفاقية سلام مع الشعب الفلسطيني، وتطبيع العلاقات معه، والالتزام بحل يضمن للاجئين، ان لم يكن كل حقوقهم المشروعة، فبعضا منها على الأقل، مقدمة لتطبيع علاقات إسرائيل مع العالم العربي.
أراد بيريز، وملايين من الإسرائيليين، تطبيع علاقاتهم مع العالم العربي، قافزين فوق الشرط الاول لتحقيق ذلك: تطبيع علاقاتهم مع الفلسطينيين. لم يتحقق حلم بيريز. إذ: ليس في الحياة شيء مجّاني. لا تستقر، ولا تستمر، معادلة فيها كمٌّ هائل من الاجحاف، كما هي عليه المعادلة القائمة بين إسرائيل والشعب الفلسطيني هذه الايام. للسّلام والاستقرار والهدوء ثمن. حلم بيريز، بحرارة، بالبضاعة. لكنه لم يعمل على تأمين وتسديد الثمن. ذلك رغم ان الفلسطينيين، في غالبيتهم العظمى، لم يضعوا سعرا غاليا لمطالبهم/بضاعتهم، حتى لا نقول انهم كانوا "بيّاع مهاود".
يقول العرب: "اذكروا محاسن موتاكم". ولا ضير في اضافة "وموتاهم". وقد لا يضر ان يقال ان شمعون بيريز كان رجلا شجاعا. فللشجاعة معانٍ ووجوه مختلفة، قدر اختلاف المواقع والمناصب التي يشغلها الفرد. شجاعة الجندي في ميدان القتال لها موازين ومعايير مختلفة عن شجاعة استاذ جامعي يعترف مثلا بصوابية طرح طالب شجاع لتقييم حدث ما مختلف او حتى مناقض لما طرحه هو نفسه، ولها موازين ومعايير مختلفة ايضا عن شجاعة القائد السياسي الذي يتوجب عليه في مرحلة سياسية مختلفة ان يتخذ،علناً، موقفا يدعو لسياسة غير شعبية، وقد يرفضها جمهور واسع من شعبه. وفي هذا السياق يحضرني قول ينسب إلى دافيد بن غوريون: انني أعرف ما يحبه اليهود، ولكنني اعرف ايضا ما هو مفيد لليهود، وذلك ما أعمله. وفي هذا السياق ايضا يمكن ايراد ما اقدم عليه وبادر اليه الرئيس المصري الراحل انور السادات. وكل الدلائل تشير بدون ادنى شك، إلى ان شمعون بيريز مصنوع من نفس نوع ذلك المعدن.
بدأ بيريز، وهو من جيل المؤسسين لإسرائيل، تحت عباءة بن غوريون. لكنه كان مميزا بين اقرانه بقدرته على الابداع والتميز، فاحتضنه بن غوريون، وليس بسبب طاعته وولائه، بل بسب قدرته الواضحة على التفكير "خارج الصندوق"، بتعبير لغة السياسة والتجارة والإعلام في هذه الايام.
كان بيريز هو الابرز بين مهندسي العلاقة الإسرائيلية الفرنسية ايام رئاسة غيموليه لفرنسا، وانطوني ايدن لبريطانيا (التي كانت عظمى) في بداية خمسينات القرن الماضي، وحبك معهما، بدعم من بن غوريون "العدوان الثلاثي" على مصر عام 1956.
وإذ نجحت معارك العدوان العسكرية، وفشلت اهداف الحرب السياسية، قفز بيريز، قبل الاطاحة بالرئيس الفاشل غيموليه إلى توريط فرنسا بدعم إسرائيل في بناء مفاعلها النووي في ديمونا. هذا المفاعل انتج لإسرائيل حتى الآن، حسب تقديرات حكومات وصحف اجنبية، بحدود مئتي قنبلة ذرية، تضمن لإسرائيل القدرة على مواجهة أي تهديد عسكري كان، ومن أي مصدر او اتجاه كان.
مستندا إلى دعم بن غوريون وحماية ظهره، انطلق بيريز لبناء تحالفات وتفاهمات لإسرائيل مع دول العالم، ونجح في ذلك إلى أبعد الحدود التي يمكن تصورها. وعندما انكشف ظهره بأُفول نجم بن غوريون، بدأت متاعبه. بيريز هو تجسيد الإبداع في الغرف المغلقة. وبيريز هو تجسيد الفشل في الهواء الطلق. لم ينجح في أي منافسة أو انتخابات خاضها. حتى وهو رئيس لحكومة إسرائيل المذهولة لاغتيال اسحق رابين، والمتعاطفة معه إلى أبعد حد، باعتباره وريثا لضحية الاغتيال، خسر الانتخابات في مواجهة بنيامين نتنياهو المتهم بالتحريض على رابين.
بيريز كان رجلا شجاعا، بهذا المعنى للشجاعة. عرف، وان يكن متأخرا، استحالة قدرة إسرائيل على شطب الشعب الفلسطيني، رغم كل ترسانة إسرائيل العسكرية، ورغم افتقار شعب فلسطين لاي من عناصر القوة العسكرية. سلّم بيريز بذلك، وقفز إلى العربة عند اول محاولة من يوسي بيلن لـ"التفكير خارج الصندوق"، وكانت اوسلو. لكن بيريز، حتى في هذا السياق المتطور الشجاع، حاول ان يتجاهل الجسر فوق الهاوية، متوهما بقدرته الفائقة ان يعبر فوق الهاوية بقفزتين، واكتشف استحالة النجاح بتجاهل قوانين الطبيعة. فاجتيازالهاوية لا يتم إلا بواحدة من طريقتين: الاستعانة بالجسر، ودفع ثمن كلفة الاستعانة، او اجتياز الهاوية بقفزة واحدة، وهذا ما لم تستطعه إسرائيل، ولن تستطيعه ايضا.
ذكاء بيريز انه عرف. شجاعة بيريز انه اعترف. خطأ بيريز انه تكلم فقط، ولم يقرن كلامه بعمل، عندما كان هو صاحب القرار، والممسك بالمقود الذي يحدد اتجاه تطور الامور والاوضاع. وجاءت النتيجة: ذهب ولم يتحقق حلمه.
ليس بين اصحاب القرار في إسرائيل الآن، بعد غياب بيريز، من يملك صوتا جهوريا يحذر من انهيار حلم دولة إسرائيل في الاستقرار والهدوء، وفي الاستمرار. ليس في إسرائيل الآن تقريبا، صوت رسمي مسموع يطلب التعامل مع الشعب الفلسطينيين بما يتماشى وقواعد وقوانين العدل والانصاف والمنطق السليم، لمنع اندفاع إسرائيل الحالي الواضح إلى هاوية الانهيار والاندثار.
ذهب القناع الجميل لوجه إسرائيل القبيح.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني