لا احد ينكر "فضائل" ثورة التكنولوجيا والمعلومات على البشرية التي وان كانت محتكرة من قبل غرب لا يلتفت كثيرا الى انسانية هنا وعاطفة هناك الا بمقدار تحقيقها لمصلحته.. وفي سبيل تحقيق هذه المصلحة نراه في غالب الاحيان يتعاطى معنا كمتلقين ومستهلكين لمعلومة هو من يتحكم بإدارتها في اطار عملية غسل ادمغة شعوبنا والسعي لصناعة راي عام، عربي وعالمي، لا يملك المناعة الفكرية لمواجهة السياسات والاستراتيجيات المصنّعة في بلاد الغرب..
هذا ما يبدو جليا شكل واضح بفي طريقة تعاطي الاعلام الغربي مع وفاة الرئيس الاسرائيلي الاسبق "شيمون بيريس"، الذي بدا بنظر هذا الاعلام كـ "حمامة سلام" صنع سلاما مستحيلا مع الفلسطينيين، ولأجل ذلك تمت مكافأته بمنحه جائزة نوبل للسلام عام 1994 بعد توقيع اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين عام 1993.
لا نستغرب كثرة الاطراء والمدح من اعلام غربي هو اصلا يتبنى الرواية الصهونية للصراع ويسعى لتزوير التاريخ بتقديمه اسرائيل الى المجتمعات الغربية باعتبارها "دولة صغيرة تريد ان تعيش بسلام لكن بعض الارهابيين من الفلسطينيين والعرب يرفضون ذلك ويستخدمون الارهاب وسيلة ضد المدنيين الاسرائيليين". وكثيرة هي النماذج التي يمكن الاستشهاد بها لجهة قلب الحقائق بتحويل اسرائيل من دولة معتدية وراعية للارهاب الدولي ضد الفلسطينيين والعرب الى حمل وديع يستجدي الدعم الدولي من اجل ان يعيش بأمن وسلام دون ان تهديد من جيرانه العرب والفلسطينيين.
قد نتفهم مثل هذا الامر من اعلام غربي هو مرآة لسياسات احزاب وشركات اقتصادية واعلامية كبرى ومراكز قوى سياسية واعلامية وامنية ، لكن ما ليس مفهوما هو ان يخرج بعض الفلسطينيين بتصريحات ومواقف تمجد "شيمون بيريس" وتاريخه، ويبدو انها تصريحات تاتي دائما إما بطلب خارجي او نتيجة علاقة حميمية من صاحبها. فبعضهم قال: "إن وفاة شيمون بيريز٬ خسارة كبرى لكل الإنسانية وللسلام بالمنطقة" (رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس)، وبعضهم الآخر قال "ان بيريس يحظى باحترام الشعب الفلسطيني باعتباره كان احد رجالات السلام الكبار".
ان مثل هذا الكلام لم يصدر سوى عن قلة سواء على على المستوى الفلسطيني او العربي، لذلك فان مواقف هؤلاء ليست سوى تعبير عن مدى ارتباطهم الوثيق بمشروع هم جزء منه، وبالتالي فإن كان هذا الرحيل هو خسارة فعلا، فهو خسارة لهم وحدهم. رغم ذلك وبعيدا عن المعايير التي تستخدم عادة للحكم على شخص ما، فان التاريخ يحمل الكثير من الذكريات والمواقف التي يجب تردادها وروايتها على الاجيال الجديدة المستهدفة بأكاذيب وروايات البعض الذين لا وظيفة لهم الا العبث بتاريخ وحاضر ومستقبل شعوبهم وامتهم. وحتى لا نكون قساة على بيريس وتاريخه وعلى اصدقاءه الحزانى على وفاته، فلندع التاريخ يتكلم:
1) هو مواطن بولندي ولد عام 1934، اي قبل النكبة واعلان قيام الكيان الاسرائيلي، وتولى عدة مناصب هامة في اسرائيل وكان الوحيد الذي شغل منصبي رئيس الوزراء وايضا رئيس الدولة.
2) عمل على تدريب عصابات “الهاجاناه” اليهودية في عهد الانتداب البريطاني لفلسطين والتي كانت احد العصابات المسلحة التي ارتكبت عشرات المجازر التي ادت لاحقا الى تهجير اكثر من ثلاثة ارباع المليون من الشعب الفلسطيني خارج فلسطين.
3) سعى للسلام منذ بدايات عمله في الجيش الاسرائيلي فكان احد اهم الذين عملوا على تطوير مفاعل ديمونا النووي، اضافة الى مساهمته الفاعلة في تأسيس الصناعات العسكرية الاسرائيلية خاصة الصناعات الجوية.
4) له الفضل في بناء اول مستوطنة في الضفة الغربية التي تم بناؤها في عهده عندما كان وزيرا للدفاع في بداية السبعينات.
5) المسؤول الاول عن المجزرة التي ارتكبتها الطائرات الاسرائيلية ضد موقع للأمم المتحدة عام 1996 في بلدة قانا جنوب لبنان خلال عملية “عناقيد الغضب”، ما ادى الى استشهاد 118 مدني من الاطفال والنساء.
6) قتل وجرح واعتقال الآلاف من ابناء الشعب الفلسطيني سواء من خلال موقعه في حزب العمل وكواحد من اشد متطرفيه او من خلال الـ (12) حقيبة وزارية التي تولاها خلال حياته.
7) احد المشاركين في قرار شن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وغيرها من العمليات العسكرية الخارجية ضد اهداف فلسطينية وعربية.
8) أحد مهندسي اتفاق اوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وعلى هذا الاساس منح جائزة “نوبل” للسلام عام 1994 بالاشتراك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين والرئيس الراحل ياسر عرفات.
هذه عينة من التاريخ الاسود لهذا الارهابي الذي على يده وبسببه عاش الشعب الفلسطيني ولا يزال يعيش الويلات والمآسي. واي كلام آخر من قبل البعض فهو حكما كلام ليس موجودا الا في كتب التاريخ التي ترى في يوم نكبتنا ذكرى لقيام دولتهم.. هم حتما يقرأون في كتاب آخر غير الكتاب الذي قرأ ولا زال يقرأ به كل الشعب الفلسطيني.
بالتأكيد هناك خسارة حصلت وهي عدم محاكمته دوليا باعتباره رمز من رموز القتل والاجرام والارهاب.. وإن كان لدى احدهم بعض ممن لا نعرفه نحن، كأن يكون قد عمل في السر مثلا من اجل دولة فلسطينية على انقاض دولة اسرائيل، او خطط سرا لعودة اكثر من خمسة ملايين لاجىء ينتشرون في كل بقاع الارض، او انه كان جنديا سريا يعمل من اجل نصرة القضية الفلسطينية فهذا كلام يجب ان يقال من اصحاب التصريحات والمواقف التي تمتدح من كان سببا في معاناة شعب بأكمله.
فتحي كليب / باحث فلسطيني، لبنان