فلسطينيو 48.. "ما يبقى في الوادي غير حجارة"

بقلم: فايز رشيد

بداية, كل التحية للنواب العرب في منطقة 48, الذين قاطعوا جنازة بيريز، فوفقا للنائبة في الكنيست عايدة توما, عضو الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة, قالت في تصريح لها لوكالة الصحافة الفرنسية: "استغرب أن يتوقع منا احد المشاركة في جنازة بيريز, او ما يسمى الحداد القومي! لقد تحدث بيريز عن السلام، لكنه لم يفعل شيئا من أجله, رغم أنه صاحب مشروع أوسلو! بل إنه راعي الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة, وصاحب فكرة مفاعل ديمونا والتسلح النووي, ومن ارتكب مجزرة قانا عام 1996 في جنوب لبنان".
من جهته, قال عضو الكنيست من الحركة الإسلامية مسعود غنايم: "بيريز لم يفعل شيئا لصالح الشعب الفلسطيني, في حين قام بالكثير من الأعمال لصالح الحركة الصهيونية, وبناء دولة إسرائيل". معروف أن القائمة العربية، لها 13 عضوا، وتشكل القائمة الثالثة في الكنيست بعد الليكود والعمل.
أثار هذا الموقف الصحف الصهيونية كلّها، بما فيها المحسوبة على الاتجاه التقدمي ظلما وعدوانا, كـ"هآرتس". فقد كتب بن كسبيت قائلا: "كسول يدعى باسل غطاس, علل في نهاية الاسبوع، قرار مقاطعته لجنازة بيريز، بحقيقة أن بيريز كان من مهندسي المشروع الصهيوني. ويستطرد إن فِعل النواب العرب تعيس, بائس ومهين لسببين متراكمين، الاول, الموضوع الانساني، فالمشاركة في جنازة انسان ليست تبنيا لطريقته او لروايته، فجأة تذكروا كفر قاسم وقانا! واذهب لتعرف أي قرى اخرى أيضا. خيرٌ أنهم لم يعودوا إلى طرد اسماعيل. ويستطرد الكاتب بهزء واستخفاف بالنواب العرب الفلسطينيين في الكنيست (والمدّعي إنصافهم) قائلا: أما السبب الثاني لعدم مشاركتهم, فهي الازدواجية, فحقيقة اعتقادهم, أن بيريز هو شريك في المؤامرة الصهيونية الكريهة, جعلته مكروها, وأبقتهم خارج مراسيم الجنازة. والان, تعالوا لنحاول فحص ماذا كان عليه وضع نواب القائمة المشتركة, لو لم يقم هنا المشروع الصهيوني؟" يجيب الكاتب على سؤاله قائلا باستعراضية فاشلة: "لعله كانت ستسقط عليهم الان, براميل متفجرة من السماء. لعلهم كانوا يعيشون في دولة ديكتاتورية، بعيدة عن أبسط الحقوق الديمقراطية للإنسان, مع حقوق أقل بكثير وواجبات أكثر بكثير مما لهم وعليهم في إسرائيل".
أسوق ما قاله الصحافي الكاتب (التقدمي!) عن أهلنا في منطقة 48 متناسيا أو ناسيا، العنصرية الكريهة ضدهم, من خلال 141 قرارا عنصريا سنتها الكنيست ضدهم, ولعل آخرها وليس أخيرها, جواز طرد النائب من الكنيست, إذا ما أيد "الإرهاب" ضد إسرائيل, وإذا ما قام بزيارة عائلة "إرهابي" قتله الجيش الاسرائيلي. المقصود من القرار بالطبع, النواب العرب. كل هذه القرارات أيدها بيريز، فقد رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وأعلن مرارا أن القدس ستبقى "العاصمة الخالدة والموحدة لإسرائيل", ورفض كل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحقوق الوطنية الفلسطينية, ووصف ضحايا مجزرة قانا من الأطفال قائلا: "للحرب ضحاياها, وهم بضعة عرب لا أكثر". بيريز امتلك قبضة نتنياهو الحديدية نفسها، كما قبضة شامير وايهود باراك ومناحيم بيغن واسحق رابين وبن غوريون, لكنه حرص دوما على تغطيتها بمنديل حريري ناعم.
"شمعون بيريز هو الإسرائيلي الذي يتماثل اكثر من أي شخص آخر مع المسيرة السلمية, مع جهود المصالحة مع جيراننا, مع الاستعداد لإقامة دولة فلسطينية". هذا ما خطّه قلم صحافي آخر في الصحيفة ذاتها. هذا غيض من فيض أقوال الصحافة الصهيونية حتى العظم في الأيام التالية لوفاة بيريز. نسأل هؤلاء المراوغين: لماذا لم يعمل بيريز على إقامة الدولة الفلسطينية, إبان تسلمه لمنصب رئاسة الحكومة في الكيان؟ نعم, وهو الذي بدأ المشروع الاستيطاني الصهيوني عام 1974 عندما أمر ببناء أول مستوطنة صهيونية في منطقة سبسطية في الضفة الغربية المحتلة، ثم, هل كان على النواب الفلسطينيين العرب أن يسيروا في جنازة قاتل إخوانهم، والعنصري الأول ضدّهم؟ وللتوضيح نقول ما سيرد تاليا:
ربما هي للصدفة البحتة, أن صادفَ موت شمعون بيريز في اليوم ذاته, الذي أحيا فيه أهلنا في المنطقة المحتلة عام 48، الذكرى الـ16 لهبة القدس و"الأقصى", (هبّة أكتوبر2000 ) التي امتدت 10 أيام إنها الهبّة الأطول زمنيّا في تاريخ فلسطينيي 48. وكانت تلك الهبّة ردا وتصديا لعدوان الاحتلال الصهيوني الشامل على القدس والضفة وقطاع غزة المحتلين. لكنها في الوقت ذاته، كانت انفجارا شعبيا ضد سياسة التمييز العنصري. أتت الذكرى هذا العام بعد يوم من دفن آخر شخصيات فوج مؤسسي الكيان الصهيوني، وهو شمعون بيريز. نعم, انتفض أهلنا في منطقة 48 قبل 16 عاما. انتفضوا من خلال قيامهم بإضراب عام, ردا على الهجوم على المسجد الأقصى المبارك، والحرم القدسي الشريف, بعد أن اقتحمه مجرم الحرب أرييل شارون, الذي كان يومها زعيما للمعارضة. وجد أهلنا أنفسهم أمام ماكينة قتل, كان مخططا لها من قبل، بدأ الشهداء يرتقون إلى العلياء, الواحد تلو الآخر, وعلى مدى عدة أيام. وصل العدد إلى 13 شهيدا, تم اغتيالهم بدم بارد! في عدة بلدات. وبالطبع برصاص القناصة الذين أرسلهم رئيس الوزراء آنذاك إيهود باراك (صديق بيريز ورفيقه في الحزب الحاكم) كما المؤسسة العسكرية, من أجل زرع الترهيب والردع, إلا أن هذا لم ينفع.
أهلنا في منطقة 48 يذكرون شمعون بيريز بخطابه الاستعلائي العنصري ضدهم, وبشكل خاص منذ سنوات الستينيات وعلى مدى السنوات التالية, إذ كان من الوجوه التي تغزو القرى والبلدات العربية, خاصة في مواسم الانتخابات، سعيا لإذلال العرب. انخرط بيريز في شبابه, في العصابات الصهيونية الإرهابية, التي ارتكبت مجازر عديدة بحق شعبنا, لعل أشهرها مجزرة دير ياسين. ومنذ عام 1948 وحتى عام 1959, شغل عدة مناصب مهمة جدا في المؤسسة الحاكمة على المستوى المهني, قبل أن يصبح نائبا في الكنيست، ومن ثم وزيرا لعدة حقائب, وصولا إلى رئاسة الوزراء. كان بيريس لسنوات طويلة, في قيادة حزب "مباي" (العمل حاليا) الذي انفرد بحكم إسرائيل على مدى الأعوام الـ 29 الأولى للكيان, ووضع أسس كل سياسات التمييز العنصري. وفي فترته صودر 80 % مما يملكه فلسطينيو 48 من الأرض, عدا الاستيلاء على أملاك المهجّرين والبلدات المدمّرة. وفي عام 2001, وفي ظل حكومة أرييل شارون الأولى, كان بيريز من بادر إلى إقامة وزارة تسمى "تطوير الجليل والنقب", وهي الاسم الحركي لمشروع التهويد, الذي قاده بيريز لهاتين المنطقتين, إذ أن نسبة فلسطيني 48 في منطقة الجليل, شمال فلسطين، تتجاوز 54%، بينما نسبتهم في صحراء النقب 40%. وفشلت كل المخططات الإسرائيلية لإقناع اليهود بالسكن في هاتين المنطقتين، بشكل يكسر نسبة فلسطينيي 48 المرتفعة. هذا المخطط يعج بالعنصرية, التي تميز اليهود على العرب! بدءا من الأرض والمسكن, وصولا إلى فرص العمل والامتيازات الضريبية. إلا أن بيريز دُفن وفي قلبه غصّة, بسبب فشل مشروعه هذا.
بيريز حقق للكيان الصهيوني, المفاعل نووي, وتمويل الأسلحة الفتاكة! هذه التي قد لا يُعرفُ عنها الكثير حتى الآن، ولكن تم التلميح عنها مرات كثيرة. مستوطنات كثيرة زرعها الكيان الصهيوني في عهد بيريز وغيره، لتبتلع القرى والبلدات العربية، ليصبح أهلنا محاصرين أكثر فأكثر بعد إقامة المستوطنات على أراضيهم المصادرة بحجج مختلفة. لقد عُرف بيريز بصفته أحد واضعي سياسات ومخططات "أسرلة" فلسطينيي منطقة 48، ومحاولة تدجينهم وتشويه انتمائهم القومي وهويتهم الفلسطينية. بيريز كان من القادة الصهاينة الأوائل (في عهد دافيد بن غوريون, أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني)، الذين فرضوا "الحكم العسكري على أهلنا في الأرض المحتلة عام 48! الذي استمر حتى عام 1967. بفضل وعي شعبنا هناك، فشلت كل السياسات الصهيونية العنصرية الحاقدة.
نقول لكسبيت, ولكل الصهيانة ولقادتهم, ما قاله المبدع الروائي الطاهر وطار في رائعته "العشق والموت في الزمن الحراشي": "ما يبقى في الوادي غير حجاره". نقول لهم، أنتم الطارئون, العابرون. الزائلون من أرضنا! نحن الباقون… نحن صخور الوادي وحجارته, زيتونه, أشجاره.. سنديانه.. نحن الفلسطينيون الكنعانيون العرب أصحاب الأرض والحق والقضية الوطنية العادلة.

د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني