التراث الفلسطيني بمختلف مكوناته , بمثابة الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني , و مخزون الذاكرة الوطنية, التي يستند إليها الشعب في مواجهة حاضره وبناء مستقبله , ويكتسب التراث أهميته وصدارته في حياة الأفراد والمجتمع على حد سواء , من تواتره بين الأجيال وقبولهم به وتعارفهم عليه , لما يحمله من معاني راقية ومفاهيم إيجابية , لأن الإجماع في المجتمعات لا يكون الا على الخير والجميل من الأقوال والأفعال , التراث متنوع من حيث مصادره وأنواعه وما نقصده في هذا المقال هو التراث المعنوي أو الغير ملموس أو الشفوي ويضم الروايات والحكايات ، الأمثال والشعر العامي , والدبكة الشعبية , والدحية , وغيرها , فترى الأمثال الشعبية وما تحمله من حكم ودروس ناتجة عن تجارب سابقة , قد أضحت فناً شعبياً له رصيده في حياة الناس , وكذلك الفنون الشعبية الأخرى والعادات والتقاليد الإيجابية والتي حافظ عليها المجتمع , وإستمرت رغم إختلاف الزمان وتعاقب الأجيال , وما يعنينا من التراث المعنوي " الدحية " كفن شعبي وموروث وطني , على إعتبارها جزء أصيل من التراث الفلسطيني الأصيل, خاصة بعدما أثاره موقف وزير الثقافة السابق في الحكومة الفلسطينية العاشرة د. عطالله أبو السبح من الدحية ووصفها بـ " الجعير" و " الملوث السمعي " و " كلام أعجمي" أوصاف أطلقها من خلال صفحته على الفيس بوك , وأثارت رفضاً واسعاً وإنتقاداً كبيراً لأقواله , بعد هذا الموقف المستغرب من وزير ثقافة سابق وقيادي سياسي , يفترض منه حمل هموم وآمال وآلام وحمايته لثقافة وتراث شعبه , وما يتميز به هذا الشعب من تنوع وإختلاف في جوانب كثيرة , متنوعة ومميزة مع يغذيها التنوع الإبداعي في الحياة الفلسطينية ما بين الحضر والبداوة والقروية , والساحل والجبل والصحراء , وهو تنوع أثرى الحالة الفلسطينية وزاد من تألقها وعراقتها , وإستفادت ثورتنا المعاصرة من هذا التنوع التراثي الفلسطيني , مما وفر لها الحاضنة الشعبية الكبيرة والغنية بالتجارب الحياتية , مستخدمة كل أنواع التراث الفلسطيني , في معركة التحشيد لصالح مشروع التحرر لرفع المعنويات الوطنية وشحذ الهمم لمعركة البقاء والوجود على هذه الأرض المباركة .
وللتعرف بـ " الدحية " بإيجاز فإنها تعتبر من الفنون المصاحبة لحالة الحرب , حيث تتميز بأهازيج وأصوات تشبه إلى حد كبير زئير الأسود أو هدير الجمال , والتي تهدف إلى بث الرعب في قلوب الأعداء قبل بدأ المعركة , وقد تؤدى الدحية بعد الإنتصار على العدو وإنتهاء المعركة .
و "الدحية " عربية المنشأ ثورية الأصل , في ميلادها تزامت من إنتصار العرب في معركة "ذي قار" التي هزم فيها كسرى , فلقد إنتفضت القبائل العربية المبعثرة , لنداء الشرف دفاعاً عن هند بنت المنذر في مواجهة كسرى الذي أرادها جارية في قصره , فبعد أن إنتصر العرب على جيش كسرى , إصطف الفرسان جميعاً وهم وقوف , وأخذوا يؤدون هذا اللون الشعبي العربي الأصيل ,تعبيراً عن نخوتهم وشهامتهم لبنت المنذر , وحمايتهم لها من أقوى دولة في ذلك العصر .
قديماً كانت " الدحية" الفلسطينية يتم أدائها على ضوء القمر بلا موسيقى أو أضواء صاخبة , وكانت يكسوها العفوية والإرتجال , ويشارك فيها الجميع من الرجال , وحديثاً تم إدخال الموسيقى على أداء " الدحية " لإضفاء نوع من التجديد علي هذا الفن الشعبي , ونرى بأن الموسيقى أخرت مرتبة الشاعر البديع , والتي يجب أن تكون الأولي ومهوى أسماع المصطفين ليلتقطوا كلامه ويتفاعلوا معه , وما أجمل أن تعود "الدحية" إلى سيرتها الأولى , لتكون ميداناً للرجال يجتمعون في صفوف وكأنهم الجنود , كإشارة على الوحدة والترابط والتماسك في المجتمع , وعلامات للقوة والرجولة رسالة لإعداء الشعب , بأننا أمة قوية موحدة وفي أفراحنا لا ننسى القضية المركزية , فننشد أشعاراً للإسلام ديناً , ونحشد الهمم للجهادٍ , وندعو لكريم الأخلاق , وننبذ سوء الطباع , ونبني أجيالاً تتربى على حب النبي العدنان وعشق الأوطان .
ما يصفه الدكتور أبو السبح بـ " الجعير" عند حديثه عن " الدحية" هي أبيات شعرية يلتزم فيها الشاعر بقافية ذات قاعدة ثابتة , وبيت القصيد في كلمات الشاعر بمقطوعة سردية لموضوع قصصي , هو جوهر ما تم الإجتماع عليه كموضع قصصي سردي لمعركة ما أو وصف لديار أو هجاء أو مدح أو فرح , هو من أصعب أنواع الشعر برغم قصر البيت , وصعوبته تكمن في إلتزام الشاعر بنظم بيتاً جديداً في أقل من عشر إلى عشرين ثانية , وهنا تكون المناظرة حامية ومحتدمة ولا يقوى علىها الا الجهابذة في الشعر والنثر والأدب .
ما ينعته الوزير أبو السبح بـ"الجعير" عبارة هي كلمات كلها نخوة وشهامة ورجولة , كم وقف البدَيع في حفلات " الدحية " يتغنى ببطولات المقاومين وصمودهم الأسطوري , وأسرهم لجنود الإحتلال , وكم أنشد الهجيني نوع حزين من " الدحية" حزناً على القادة الشهداء وحال الأسرى في سجون الإحتلال من الظلم والمعاناة , هل هذا هو الجعير الذي تقصده يا سيادة الوزير؟!.
والكلام الأعجمي الذي يصفه به شعر "الدحية" فيه تنكر وإستهزاء بشريحة واسعة من الشعب الفلسطيني تنتشر على إمتداد الوطن , إذا كنت لا تقوى يا دكتور على فهم وإستيعاب لهجة شعبية في وطنك فهذه مشكلتك , علماً بأن الكلام من عمق اللغة العربية الفصحى التي لم تتأثر بمخالطة المجتمعات واللهجات الأخرى .
وعن الملوث السمعي ما هو موقف الدكتور أبو السبح من غزو الأغاني المجانة الأجنبية ومنها العبرية ؟ ! , و كذلك الأغاني المصرية ذات المستوى الهابط والمتدني جدا , والتي لا تراعي حياءً ولا أدباً وهي تملاء سماء قطاع غزة وشوارعه , وهل تلوث السمع عند الدكتور من غناء الدحية سببه العداء لمنشأ " الدحية" , ولماذا لم يهتز بدنك من الموسيقى الظاهرة والقوية في ما يسمى " الأناشيد الإسلامية " وأنت الرجل الشرعي الذي يخطب في الناس الجمعة ؟! .
ما يجب أن نؤكد عليه ونحن نواجه حرباً ضروساً , على هويتنا الفلسطينية الأصيلة عبر محاولات التهويد والأسرلة , وشطب الهوية وإنهاء الوجود الفلسطيني وبعثرته , أن نواجه بوحدتنا وحفظ تراثنا وصيانة هويتنا , وتعزيز الترابط والتماسك بين مكونات المجتمع الفلسطيني , وأن تذوب كل الفوارق والإنتماءات الجانبية لصالح الإنتماء الأكبر لفلسطين القضية , من أجل نبني وطناً ونحرر أرضنا ونطهر قدساً , وأن لا نسمح لأحد بأن ينهش في فسيفساء الشعب الفلسطيني بالأمس الرجوب واليوم أبو السبح , ولا أقل من إعتذار أو توضيح !.
بقلم/ جبريل عوده