حين يحتَفل بالنصر في زمن الهزيمة

بقلم: حسن نافعة

تحرص كل الأنظمة العربية على الاحتفاء بالمناسبات الوطنية والقومية والدينية، غير أن لكل نظام طريقته الخاصة في توظيف هذه المناسبات وتسخيرها لخدمة مصالحه الذاتية، وهو ما تؤكده مرة أخرى طريقة الاحتفاء بحرب أكتوبر لهذا العام، والتي هلَّت ذكراها الثالثة والأربعون خلال الأسبوع الماضي. فبينما تشير الحقائق التاريخية المجردة إلى أن الجهد الذي أفضى إلى الإنجاز الذي تحقق في حرب أكتوبر كان "قومياً" بامتياز، إلا أن البعض لا يزال يصر ليس فقط على "تمصير" هذا الإنجاز، ولكن على تفصيله أيضاً على المقاس الشخصي لكل من يستطيع أن يجلس على كرسي الحكم.

ففي زمن السادات جرى اختزال حرب أكتوبر في "معركة العبور" وحدها، أي عبور الجيش المصري لقناة السويس وقيامه بتحطيم خط بارليف، ومن ثم أصبح "صاحب قرار العبور" هو وحده "بطل الحرب"، ثم "بطل الحرب والسلام" عقب زيارة القدس التي أدت إلى إبرام معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل! وعلى رغم أن اغتيال السادات جرى أثناء الاحتفال بالذكرى الثامنة لحرب أكتوبر، فإن محاولات العبث بإنجاز أكتوبر والإصرار على تفصيله على المقاس الشخصي لكل حاكم لم تتوقف. ففي زمن مبارك اختزلت حرب أكتوبر في "الضربة الجوية الأولى"، ومن ثم نسب الفضل في الانتصار الذي تحقق إلى "صاحب" هذه "الضربة". وبعد سقوط مبارك تم تغيير النغمة مرة أخرى لتتناسب مع الأوضاع السياسية المتغيرة، وأصبح الفضل في إنجاز أكتوبر ينسب حالياً إلى الجيش الذي بات يشكل مع الشعب "يداً واحدة"! وإن دلَّ هذا العبث بالتاريخ على شيء، فإنما يدل على أن النظم الحاكمة تتقن فنون خداع النفس وتصر على السير على الدرب نفسه الذي أوصل العالم العربي إلى ما هو عليه اليوم من هوان ومذلة واستباحة.

لم يكن الإنجاز الذي تحقق في حرب 1973 ضربة حظ، أو ثمرة جهد فردي لقائد أو زعيم، أو أحد تجليات جيش أو حتى شعب عربي بعينه، وإنما كان محصلة تضافر جهود جبارة، فردية وجماعية، شعبية ورسمية، ساهمت معاً في توفير مقومات وعناصر النجاح في معركة الثأر واسترداد الكرامة. فالقيادة السياسية التي هُزمت في حرب 1967، والتي أصرَّ الشعب المصري على أن تبقى في موقعها تعبيراً عن رفض الهزيمة، تسلَّحت برؤية أوضح وإرادة أصلب من ذي قبل وأصبحت بعد "النكسة" أكثر حرصاً على استخدام المنهج العلمي في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، وأبدت الشعوب العربية استعدادها لتقديم يد العون والمساعدة لغسل عار الهزيمة. لذا جاء إنجاز أكتوبر تتويجاً لمسيرة طويلة كان من أبرز معالمها: 1- خروج الشعب المصري يومي 9 و 10 حزيران (يونيو) لمطالبة عبدالناصر بالعدول عن قراره بالتنحي. 2- إعادة هيكلة وتحديث الجيش المصري بالاعتماد على خريجي الجامعات كأساس للتشكيلات القتالية والخدمية. 3- انعقاد قمة الخرطوم التي ساندت التوجه نحو الصمود وتعهدت فيها دول النفط بتقديم دعم سخي لدول المواجهة. 4- بدء حرب الاستنزاف التي شكَّلت مختبراً لتفريخ مقاتل متمرس لا يهاب العدو. 5- التنسيق العسكري المتواصل بين مصر وسورية والذي تُوج باتفاق على خوض حرب متزامنة على الجبهتين. 6- الاستخدام الفعلي للنفط العربي سلاحاً في المعركة في مواجهة الدول الداعمة والمنحازة لإسرائيل... الخ. تلك حقائق مجردة تقطع بأن حرب 1973 كانت عربية بامتياز، وليست حرباً مصرية أو سورية. صحيح أن الرئيسين السادات والأسد اتخذا قرار الحرب وتحملا تبعاته النفسية والسياسية، لكن ما كان لمثل هذا القرار أن يتخذ أصلاً وما كان للحرب أن تحقق ما حققته من إنجاز لو لم يسبقها ويتخللها جهد مشترك عَكَسَ تضامناً قومياً لم يسبق له مثيل، حتى في زمن عبدالناصر. لنكن صرحاء مع أنفسنا ولنعترف بأن تلك حرب لم تسفر عن انتصار عربي كامل ولم تلحق بإسرائيل هزيمة ساحقة، ومع ذلك فمن المقطوع به أن ما تحقق من إنجاز في ميادين القتال، وعلى الجبهتين المصرية والسورية، كان كافياً لمحو عار هزيمة 1967 ولإسقاط أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. فقد ثبت أن إسرائيل مُنيت بخسائر هائلة خلال الأيام العشرة الأولى من القتال، وكانت على وشك الانهيار التام، واستغاثت بالولايات المتحدة لإنقاذها، ولولا الجسر الجوي الأميركي الذي أمدَّها ليس فقط بأحدث أنواع الأسلحة وإنما أيضاً بمقاتلين مزدوجي الجنسية، لما تمكَّنت من فتح الثغرة التي عكست مسار المعركة وفرضت القبول بقرار لوقف إطلاق النار لا ينص على الانسحاب الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن العالم العربي برز كقوة عالمية مؤثرة، لأدركنا أن حرب 1973 أدت إلى تغيير حقيقي في موازين القوى كان كافياً، لو أُحسن استخدامه بكفاءة، للتوصل إلى تسوية تستجيب الحد الأدنى من الحقوق العربية. غير أن إصرار السادات على الإدارة المنفردة لمعركة التسوية السياسية، والرهان على الدور الأميركي في تلك المعركة لم يكن له ما يبرره، وعكس إفراطاً في الثقة كان في غير موضعه، انتهى بالتفريط في الحقوق. وليس لديّ من تفسير لهذا الاندفاع غير المدروس سوى "عقدة الزعيم" التي أظن أنها أصابت السادات بعد الحرب وكانت لها نتائج كارثية على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي بدأت مرحلة من التغلغل الأميركي غير المسبوق في شؤون مصر الداخلية كان من نتائجه: تجربة مشوهة في التنمية الاقتصادية (انفتاح السداح مداح الذي أفضى إلى خصخصة القطاع العام)، وتجربة مشوَّهة في التنمية الاجتماعية (اتساع نطاق القطاعات المهمشة والهوة بين الأغنياء والفقراء وتزايد دور ونفوذ رجال الأعمال)، وتجربة مشوهة في التنمية الثقافية (إخلاء الساحة للقيم والفنون الهابطة)، وفي التحول الديموقراطي (الإفراج عن جماعة "الإخوان" والاستعانة بتيارات الإسلام السياسي لمواجهة التيارات اليسارية التي اعتبرها السادات عدوه الرئيس، في ظل تعددية سياسية وحزبية شكلية ومقيدة). أما على الصعيد الخارجي فقد أدى الرهان على دور أميركي منفرد إلى تآكل النزعة الاستقلالية وتحول مصر إلى دولة تابعة للمعسكر الغربي بعد أن فقدت الكثير من قدرتها على التأثير في أي من دوائر السياسة الخارجية. ولا أظن أنني أبالغ إن قلت أن نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة كان هو البداية الفعلية لاتجاه النظام العربي نحو التفكك والانهيار.

قد يرى البعض أن تحميل السادات وحده المسؤولية عن انهيار النظام العربي ينطوي على قدر من التعسف، وهذا صحيح إلى حد ما، خصوصاً أن عدوى الحالة النرجسية التي تقمصت السادات سرعان ما انتقلت إلى قادة عرب آخرين ودفعتهم لارتكاب أخطاء أفدح من تلك التي ارتكبها السادات، بدليل إقدام صدام حسين، مثلاً، على شن الحرب على إيران في نهاية السبعينات، ثم غزو الكويت في بداية التسعينات. ومع ذلك يظل السادات، في تقديري، هو المسؤول الرئيس عن وضع النظام العربي على طريق التفكك والانهيار، وذلك لأسباب عدة، ربما كان أهمها أنه تعمد تفكيك حالة التعبئة التضامنية التي كان عبدالناصر قد نجح في تفجير طاقاتها الخلاقة عقب هزيمة 1967 وظلت متأججة حتى نهاية حرب 1973. ولا جدال عندي في أن فترة ما بعد النكسة وحتى نهاية حرب أكتوبر كانت من أخصب الفترات في حياة مصر والأمة العربية وأكثرها قدرة على صنع مستقبل أفضل للجميع. لكن حين أراد السادات أن يؤسس لمشروعه الخاص ويبني لنفسه شرعية جديدة لم يجد أمامه من بديل للأسف، وربما بسبب "عقدة عبدالناصر" المترسبة في أعماقه، سوى هدم المشروع الناصري من أساسه بدلاً من العمل على إصلاح مثالبه، ومن ثم أخذ البلاد كلها في اتجاه معاكس وأدخل مصر في متاهة تواصلت في زمن مبارك على مدى ما يقرب من ثلاثين عاماً.

إقدام السادات على "تمصير" حرب أكتوبر، لربط ما تحقق فيها من إنجاز بشخصه كان مقدمة طبيعية لتفصيل هذا الإنجاز على مقاس أي حاكم يأتي من بعده، حتى وإن لم يكن قد شارك في أي حرب من قبل. ولأن العقود الأربعة التي أعقبت حرب أكتوبر خلت من أي إنجاز حقيقي، سواء على المستوى المصري أو على المستوى العربي، يبدو أن استدعاء انتصار أكتوبر والاحتفاء به بات هو الوسيلة الوحيدة لتعويض الإحساس بالهزيمة الشاملة التي يشعر بها الجميع في هذه الأيام.

أظن أنه آن الأوان لوضع حد لهذا العبث بالتاريخ والتوجه الى الشباب المصري والعربي بخطاب مختلف يتسم بالشفافية ويجيب عن سؤالهم الملح: كيف تحول النصر الذي تحقق في أكتوبر، حتى لو كان جزئياً أو محدوداً، إلى هزيمة شاملة على هذا النحو؟ فمن العيب في زمننا هذا أن نحتفل بالنصر إلا إذا كان الهدف هو استخلاص الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تحوله إلى هزيمة، فتلك هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة روح أكتوبر التي بات العرب جميعاً في أمس الحاجة إليها!

حسن نافعة

* كاتب مصري