كثيرة هي النماذج النسائية كان لها الأثر الكبير في ثورة الشعب الفلسطيني , ضد الإحتلال الصهيوني , المرأة الفلسطينية زيتونة العطاء وأيقونة الحياة , إلى جانب كونها الأم المربية , التي تحتضن أسرتها بكل دفء وحنان , تزرع تلك الأم في صغارها معاني حب الوطن والإنتماء لترابه الطاهر, وتغرس في نفوس أطفالها أبجديات التضحية والجود بالأرواح والأموال في سبيل كرامة الأوطان والمقدسات , فلا غرابة أن تجد أم الشهيد , تتقدم صفوف حاملي فلذة كبدها شهيداً مدرجاً بدمائه الزكية , تقف كالسنديانة شامخة وسط الدار , تتطلب من المعزيات عدم البكاء , بل تريد أن تسمع منهن زغاريد الفرح , فلقد أصبح في بيتها شهيد , يشفع لها ولأهل بيتها , ويسجل بمداد من دماء وأشلاء , حضوره وعائلته في سجلات المدافعين عن أطهر قضية على وجهة هذه الأرض.
صور مشرقة للمرأة الفلسطينية المجاهدة , قديما وحديثاً وعلى مدار تاريخ شعبنا الفلسطيني , تتواتر السير العطرة للماجدات الفلسطينيات , لكل زمن رموزه وأسمائه يجمعهن حب الوطن , وتحريضهن على قتال الأعداء , لا يهزهن وجع الفراق , يقفن بكل كبرياء في وداع شهدائهن , وتتحجر عيونهن ولا تنسكب الدموع , خشيةً من أن يراهن العدو , فيفرح لقهرهن ولدموعهن , فمنهن أمهات الشهداء وما أعظم أجرهن على الله عزوجل , بالصبر عند الصدمة الأولى , فتخرج متوشحة بكرم العطايا الإلهية فتظهر آيات الصبر والإحتساب في مواقف قد ينهار منها الرجال , وتفتخر بصمود وصبرها في مواجهة المصائب , وأي مصيبة أعظم من موت وفراق الأحبة, ولكنها لا تنهزم أبداً , وتعتبر نفسها في مواجهة مباشرة ما قاتل شهيدها , وترى أن صبرها وإن كان تنفيذ لما تؤمن به من واجب التسليم لقضاء الله وقضائه , الا أنها أيضا ترى في ذلك جزء من المواجهة مع العدو الصهيوني , وتعمل على إغاضته بإظهار فرحها بحصول إبنها على لقب شهيد , فالقتل لا يقهرنا , والإستشهاد بوابة العبور نحو المعالي في الدنيا والأخرة.
ومنهن أمهات الأسرى البواسل , تنادي أمه عليه في محكمة الإحتلال وأمام الجلاد وهو يحكم على الأسير بالمؤبدات , اصمد يا بني شدة وتزول , عمره السجن ما قهر الرجال , الفرج قريب بإذن الله , فيستمد الأسير صموده , من هذا العنفوان الثوري المتدفق من صوته أمه كحليبها الذي إتروى عليه صغيراً مستمداً الشجاعة والإقدام .
تميزت الأم الفلسطينية بأنها تقدم أبنائها إلى ميادين القتال , رغم حبها الشديد لهم وتعلقها بهم وخوفها عليهم , لكن شعارهن في ذلك أن دين الله أغلى من الأبناء, أن الأقصى يحتاج منا أن نفديه بدمائنا , رأينا ذلك على سبيل الحصر مع أم الشهيد محمود العابد من مخيم الشاطئ بمدينة غزة , وهي تودع إبنها محمود أثناء توجه لتنفيذ عملية إستشهادية , وكذا خنساء فلسطين أم نضال فرحات رحمها الله , وقفت تودع صغيرها الشهيد محمد , وتوصيه وهو ينطلق إلى حيث المواجهة المباشرة من جنود الإحتلال ومستوطنيه في إحدى المستوطنات جنوب قطاع غزة , والحاجة أم رضوان الشيخ خليل رحمها الله , خنساء فلسطين التي ودعت أربعة من أبنائها شهداء , وتميزت بإحتضانها المقاتلين في بيتها بمخيم رفح , بل كانت تسهر على راحتهم , وتوفر لهم الطعام والشراب في أشد مراحل المواجهة مع الإحتلال شراسة.
تتجدد تلك الإشراقات مع كل إنتفاضة أو مواجهة مع الإحتلال الصهيوني, ولعلنا نعيش يوميات إنتفاضة القدس المباركة , وما تحمله من لوحات عزة وبطولة وتحدي وإصرار , تكشف عن المعدن الأصيل للمرأة الفلسطينية , سواء كانت أم أو زوجة أو أخت , وكأنه العقد المنظوم الذي لا ينقطع على مدار الزمان , بعد أن أضحت ثقافة تتوارثها الأجيال , وتتجلى صورها النضالية في مواجهة هذا الإحتلال إلى أن يزول , ومن تلك الصور والدة الشهيد محمد شماسنة من بلدة قطنة قضاء القدس المحتلة, تحمل رشاش وتطلق الرصاص في الهواء , لذا تلقيها خبر إستشهاد نجلها , وتودعه بكلمات صادقة من قلب أم مكلومة , وتتطالب بمد المقاومة بالسلاح تقول "مابدي أقول وإمعتصماه , ولكن أقول بدنا سلاح لنقاوم", وتؤكد على إفتخارها بشهيدها, وتتعهد بإستكمال دوره في النضال , حتى إنجاز التحرير والتخلص من الإحتلال, والدة الشهيد محمد الفقيه مدينة دورا جنوب الخليل , عندما جاء نبأ إستشهاده أنها قامت بالصلاة شكراً لله أن محمد إستشهد مقبلاً غير مدبر , وهناك من الأمهات من شاركن في جنازات أبنائهن في إشارة إلى إفتخارهن وإعتزازهن بشهدائهن وتضحياتهم.
يحاول الإحتلال قمع الإنتفاضة من خلال ضرب الحلقة الأقوى متمثلة بالحاضنة الشعبية للإنتفاضة والتي تمدها بوقود الإستمرار , فيستخدم سياسة هدم بيوت الإستشهاديين , كعقاب جماعي يستهدف أسرة الشهيد , وهذا الأمر من قبيل العقاب الجماعي المرفوض وفقاً لكافة القوانين والشرائع , ويعمل الإحتلال على إحتجاز جثامين الشهداء , كأحد أسلحته لقمع الإنتفاضة الباسلة , وتسعى مخابرات الإحتلال إلى شن حملة إعتقالات تستهدف أفراد من عائلة الإستشهادي, كما حدث من ابنة الشهيد مصباح أبو صبيح من بلدة سلواد بالقدس المحتلة , بسبب إفتخارها بجهاد أبيها الشهيد , وشن الإحتلال كذلك حملة إعتقالات واسعة في صفوف الشباب الذي قاموا بتوزيع الحلوى وإظهار الفرحة بالفعل الإستشهادي للشهيد أبو صبيح , وهي إجراءات عدوانية فشلت في مواجهة المسار الثوري الذي يتبناه الشباب الفلسطيني في مواجهة المحتل الصهيوني.
ويأتي إعتقال الحرة والدة الإستشهادي مهند الحلبي في سياق الحملة الصهيونية المسعورة ضد الحاضنة الشعبية للإنتفاضة , تلك السيدة كانت تسكن عرينها بهدوء وسكينة , حتى خرج شبلها المنتقم مهند , فأضحت نموذجاً ماثلاً أمامنا , حتى أيقنا جميعاً كيف يولد ويربى الشهداء , لتصبح المقولة في فلسطين وراء كل إستشهادي بطل أمُ عظيمة , فكانت الصابرة المحتسبة , مضت في جنازة شهيدها مهند بخطوات المعتزة بفعل وليدها, لم ترهبها جرافات الإحتلال وهي تهدم بيتها ليلاً , فقالت وهي شامخة من فوق ركام بيتها " "أخذوا قطعة من روحي وزغردت ومعيطتش ،بدي أعيط ع بيت " , ووصلت ولم تنقطع عن ميادين الإنتفاضة , تجدها إلى جانب كل أم شهيد يرتقى برصاص العدو ، تواسيها وتشد من أزرها ، في تعاضد بين عوائل الأبطال فرسان الإنتفاضة ، يقوم الإحتلال بإعتقالها في محاولة بائسة لكتم أنفاس المقاومة في حياة أم مهند ، ولكن هيهات فأمهات الشهداء عنفوان لا ينتهي ، فمن روحهن يولد العزم ويتجدد الإنتماء , وحُق أن يطلق عليهن حارسات إنتفاضة القدس .
بقلم/ جبريل عوده