( مُلَخَّـص روايـة الـيـتـيـم )

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

جابر ولد يتيم رغم وجود والديه على قيد الحياة ...وُلِد ونشأ وبلغ سن الشباب وهو يتيم بهذا المفهوم الذي عبَّر عنه أمير الشعراء أحمد شوقي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، حين قال في إحدى قصائده الشعرية:

ليس اليتيمُ مَن انتهى أبواه مِن هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا

إنَّ الـيـتـيـم هـــو الــذي تَـلْـقَى له أُمَّاً تخلَّتْ أو أَباً مشغولا

هذا هو جابر الطفل البائس الذي تخلَّت عنه أُمُّه بزواجها الجديد بعد طلاقها من زوجها الأول، وهو الذي انشغل عنه أبوه بأعماله وبزواجه وبأسفاره إلى بلاد الله.

مرَّ جابر بمرحلة الطفولة ثم الصبا ثم الشباب بلا رعاية وبلا حماية وبلا عطف أوحنان، فعاش في دنياه هزيلا متهالكا لا يقوى على البقاء أو دفْع البلاء، كثمرة ذابلة على غصن شجرة نَخِرَة، فطوَّحته الأيام وألقت به في أتون العذاب والذلة والهوان؛ فهان على والديه وعلى الأقربين، فكادت تهون عليه نفسُه بأن يضع حداً لهذه المعاناة ... ولكن الله لطف.

كانت أول محطة نَعِمَ فيها بالحب والحنان بعد والديه وهو رضيع وحين كان طفلا يدرُج هي محطة جده وجدته، وتقلَّب وهو صبي بين نار امرأة الأب القاسية وبين نار العم الظالم؛ فأذاقاه المرارة وأسقياه العذاب وتجرَّع على يديهما كئوس النكد اليومي، فعاش ذليلا مهاناً لا يشفع له عندهما ضعفه ولا يُتْمه ، ولا يحول بينه وبين أحدهما وازع من دين أو ضمير.

كبُر الفتى فوجد نفسه صبياً مُلقى على طِوار الطريق، بلا مأوى وبلا طعام وبلا حب، تكاد تستر بدنه ثيابه العتيقة المهلهلة، وتكاد عيناه وقسمات وجهه تفضح سره. ولكن الله لا ينسى من فضله أحد، فسخَّر له رجالا طيبين أخذوا بيده ، فعمل في مزارع الخضروات، وفي البناء وعمل نادلا في المقاهي ثم سائق تاكسي، حتى اكتملت رجولته، فرماه قدره بلقاء صبية ناضجة رضيت به زوجاً وأصبحت فيما بعد زوجه وأم أولاده، فوقفت بجانبه وقاسمته حياته، وتجرَّعت معه رشفات المر من كأس المرارة، وواسته بحبها وأشركته في مالها حين تخلَّى عنه أقرب الناس إليه، وآزرته حين امتنعوا عن مساعدته وأحجموا عن مساندته، فمضت معه جنباً إلى جنب دون ملل أو كلل أو ضجر. ولكنهما لم يسلما من عثرات الزمان، ولا من أذى الأشرار ومكائدهم، ولم يسلم هو من الأمراض التي هجمت عليه، ومازال يعاني منها ويكابد.

قصة جابر- هذا اليتيم- زاخرة بالأحداث الأليمة، طافحة بالمواقف التي تستوقف رجال التربية وعلماء الاجتماع للنظر فيها وللانتباه لها. فالقصة في مجملها تثير قضية تربوية اجتماعية؛ قضية العلاقات الأسرية (علاقة الزوج بزوجه، وعلاقة الوالدين بأطفالهما)، وكذلك علاقة المؤسسات الاجتماعية والجمعيات الخيرية بهكذا أطفال لحمايتهم من الانحراف السلوكي الذي قد

يؤدي إلى الإجرام وإلى مزيد من المجرمين. كما أنها تستصرخ رجال الدين والقانون ليعيدوا النظر في اهتماماتهم وأحكامهم، وهي تناشد الأزواج الجُدُد وتدعوهم إلى التعقل والحكمة في حل النزاعات الأسرية - التي غالباً ما تطرأ في السنة الأولى من الزواج- للمحافظة على حياتهم وعلى حياة أطفالهم من الضياع والتشرذم، ولحمايتهم من السير في الطريق المعاكس صوناً لهم ولمجتمعاتهم.

*****

تمتاز الرواية بالسرد القصصي ذي السبك الأدبي بما يتوافق مع السمات اللغوية الراقية، كما تمتاز بالحوارات ذات الأساليب والمفردات المنتقاة لضمان ولُوجِها إلى قلب القارئ ونفاذها إلى بواطن عقله وضميره ؛ فتُحدث في نفسه ذياك الطرب الحزين الذي يهز الوجدان، فقد جاء فيها على لسان جابر هذا الجزء من الحوار بين أمه وبين جده لأبيه:

... وتزوج أبي بعد شهرين من انفصاله عن أمي، وانتقلت أمي إلى بيت أبيها تنتظر، حتى إذا انقضت عِدَّتها الشرعية ؛ثلاثة قروء؛-(أي ثلاثة أشهر تقريباً)- أرسلتْ في طلب جَدِّي لأبي، فلما أتاها قالت:

- ياعم! آن لي أن أتحرر من قيود ابنك بعد أن تزوج من امرأة أخرى.

بُهتَ حموها - أو الذي كان حماها- ونظر في وجهها فرأى فيه همَّاً ثقيلا تنوء بحمله الجبال، وقال بصوت كسيف لا يخلو من التودد:

- ماذا تقصدين بالقيود يابنة أخي؟.

قالت وهي تعبث بأصابع يديها بعصبية:

- أظنك فهمت قصدي.

- أفصحي ولا تتركيني نهباً للتخمين والظن.

رفعتْ رأسها ثم خفضت عينيها وقالت كأنها تنتزع صوتها من بئر عميقة، أو كأنه يصدر عن شخص يقف في واد سحيق:

- خذ أولادكم معك ياعمي...فلستُ بمستبقية أحداً منهم.

- ولكن الأولاد مازالوا صغاراً وهم بحاجة إلى أمهم- إليك يابنة اخي.

فأعادت عليه قولها بصوت مخنوق:

- خذ أولادكم معك ياعمي، ولا تحدثني فيهم.

حاول جدي أن يسترضيها ويستعطفها قائلا:

- ولكن، ألا ترَيْنَ أن جابر- ابنك- طفل رضيع، فلا تنزعيه من حضنك، ولا تحرمي البنات من حنانك ورعايتك.

- فليتحمل أبوهم وزرهم، أما أنا ... فلا.

ويمضي بهما الحوار الساخن إلى أن قال جدي:

- قوليها يازينب وأريحيني، فإن شيخاً في مثل سني ينشد الراحة.

- أنا لن أعود إليه.

ورفعت كفها في وجه عمها- جدي- كأنها تطلب منه التوقف عن الكلام، ولكنه لم يتوقف:

- أهذا قرارك الأخير يازينب أم أن لك فيه كلاماً آخر؟.

- أرجو ألا تخوض معي في هذا الموضوع، لقد انتهى كل شيء، فهو قد اختار طريقه ومشى فيها، وأنا اخترت طريقي وسأمشي فيها.

- أفصحي عما يدور في ذهنك، ولا تحادثيني بما يستغلق عليَّ فهمه من الأحاجي والألغاز.

- لقد طلقني ابنك وهذا حقه، وتزوج من أخرى ، وأيضاً هذا من حقه، وأنا من حقي...

وتوقفتْ عن الكلام ثم سكن كل شيء فيها، فلم تتحرك ولم ترمش، وأطبقت شفتيها ومسحت ركني فمها بمنديل تحمله، ثم تفرست في وجه جدي، ثم لاحت على وجهها السكينة، فانفرجت شفتاها عن ابتسامة باهتة ترفع بها راية التحدي والعزم على الانتقام، وقالت بصوت رخيم:

- وأنا من حقي أن أتزوج...

ثم استأنفت كلامها كمن يفكر بصوت عال، وقد لاح في نبرة صوتها وهزة رأسها تهديد ووعيد:

- وسيكون لي زوج آخر كما أن لك زوجاً أخرى...يا فوزي!.

وألقت بي في حجر جدي ، ودفعت بشقيقتيَّ إليه، وقالت وهي مازالت بين مطرقة القهر وسنديان التحدي والرغبة في الانتقام:

- هذه أمانتكم رُدَّتْ إليكم ياعماه!.

*****

وتمضي أحداث القصة إلى منتهاها، فيكبر جابر وتكبر همومه وأحزانه فيلاقي الذل والمهانة على يد امرأة أبيه في إمارة الشارقة حيث كان يقيم أبوه، ثم من بعدها على يد عمه في دير البلح مسقط رأسه وموطنه. يخبرنا جابر عن شيء من مخزون ذكرياته وهو طالب في المدرسة فيقول:

... ولم أكن أحصل على مصروفي المدرسي من أحد، ولم أكن أملك في جيبي شيكلا واحداً أنفقه على نفسي كباقي الزملاء الذين يشترون من مقصف المدرسة ما حلا لهم من طعام وشراب، فأنظر إليهم وأنزوي عنهم وأنا حزين مستاء من مظهري ومن فقري، فأنا الآن في أوائل الشباب، تهفو نفسي إلى أشياء كثيرة لا يتحقق منها الأدنى...

( ثم يقول): ... تعرَّفت إلى بعض الزملاء في المدرسة الثانوية، وتوطدت العلاقة بيني وبينهم إلى درجة صداقة، وكنت أحرص على اختيار أصدقائي أو مَن أخالطهم أن يكونوا من الطبقة الفقيرة مثلي أو من الطبقة المتوسطة التي لا أجد حرجاً من صحبتهم. أما الأولاد الأغنياء والمترفين فكنت أتجنبهم بقدر الإمكان، وأنزوي عنهم بعض الوقت في أول الفسحة، وأُخرِج ما

بحقيبتي من ساندوتش بالزعتر أو بالدُّقة أو محشو بالفلفل الأحمر، فأَلْتَهِمه في الخفاء عن عيونهم، ثم أعود إليهم وأنا أتلمظ أمامهم مؤكِّداً لهم بفعلي هذا أني تناولت إفطاري كما تناولوه. وكذلك كنت أتعمد الاختفاء عنهم، وأتباطأ في الذهاب إليهم خشية أن يفاجئني أحدهم بالتفضل عليَّ بأن يقدِّم إليَّ شطيرة أو يدعوني أحدهم إلى المقصف لتناول الطعام أو الشراب على حسابه الخاص. كنت أتحاشى ذلك من أي زميل، وأخشاه من أي أحد منهم، لأني لو قبلت كرم الكرماء اليوم فمن أين لي أن أرد الكرم بمثله غداً!. رحم الله الإمام علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه- الذي قال:" لو كان الفقر رجلا لقتلته".

*****

ولم تَخلُ الرواية من حوارات ومناقشات بين جابر الرجل وبين سائر أصحابه؛ مما تفرضه عليهم الظروف الحياتية وبخاصة في مجالي السياسة والاقتصاد، وما يعانيه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من سوء الأحوال الاجتماعية وما يكابده من ضيق بسبب الحصار وإغلاق المعابر والبطالة.

وفي المقهى كان للأصحاب لقاء، وكان هذا الحوار :

- يقولون إن شركة كهرباء غزة خفَّضت ساعات الكهرباء إلى ست ساعات في اليوم بدلا من ثمانية .

قال أحمد: - حماس تسرق الكهرباء وتسرق السولار من حصة الشعب لإنارة أنفاقها ومخابئها، وتضيء دُور الحكومة ومؤسساتها ببلاش، وشركة توزيع الكهرباء متواطئة.

ردَّ إسماعيل بلهجة العتاب: - يا رجل حرام عليك ، إن بعض الظن إثم.

- ولماذا لا يكون بعضه الآخر حقاً وصدقاً؟.

قال شادي: - من الواجب الوطني تطهير شركة توزيع كهرباء غزة من أرجاسها، ولا يتم ذلك إلا بتأميمها.

قلت مضيفاً: - وكذلك يجب تعقيم البلديات، يعقبه تعقيم المياه.

*****

ودار حوار آخر في مجلسهم الذي ضمهم في نفس المقهى الذي يطل على شاطئ البحر، وبحضور العم أبي حسين (وهو رجل متقدم في السن):

سأل أحمد: - وهل من أمل في عودة الروح القومية لمصر وللعرب أجمعين؟.

ردَّ أبو حسين: - نرجو ذلك، وإن كانت كل المؤشرات والدلائل الثبوتية لا تُبشِّر بإحياء الموات.

- وما علامة البشارة؟.

- عندما يتسلَّم القيادة رجل فيه صفات عبدالناصر العروبية، وعندما تسترد الجامعة العربية شرفها، وتنقي روحها من دنس الأممية.

سأل أبو أكرم: - وهل سنبقى نعاني في باستيل غزة ننتظر الزعيم المنتظَر؟.

- اسألوا أنفسكم، فلديكم الجواب، وبيدكم الحل.

- الجواب معروف، حماس مرتاحة لهذا الوضع، وكذلك فتح عباس، وكلا الطرفين لا يرغب في المصالحة، وقد جاء الانقسام لكليهما بالمنفعة والربح الوفير، وأصبحت لنا دولتان إحداهما في رام الله والثانية في غزة ، وإنا لننتظر دولة فلسطينية ثالثة عاصمتها (سلفيت).

وينتهي حديث العم أبي حسين بالدعوة إلى الوحدة الوطنية ونبذ الأحزاب التي فرَّقت أفراد الشعب، ودمرت القضية الفلسطينية، ويختم بوصية يسديها إليهم قائلا:

- خذوها مني نصيحة أيها الشباب: عليكم بتفكيك الأحزاب جميعها، فإن أمضى الأسلحة فتكاً وتدميراً للشعوب المتخلِّفة مثلنا؛ هو سلاح الحزبية. فدعوها، إنها مُبيدة، ولا تكونوا كالذين قال الله فيهم :" يُخربون بيوتهم بأيديهم ." (ا. هــ)*

بقلم الكاتب الروائي/ عبدالحليم أبوحجَّاج