من غرائب عصرنا أن خمسا وثمانين مليارديرا يمتلكون نصف ما تملكه البشرية، أي إن 85 شخصا يملكون ما يملكه 3750 مليون إنسان .
و10% من سكان الدول الغنية، ومعظمها في الغرب ، يستهلكون 90% مما تستهلكه البشرية. أما 90% من سكان العالم فيستهلكون 10% فقط مما ينتجه العالم.
ويعيش 80% من سكان العالم على اقل من 10 دولارات يوميا ، وكثيرون على أقل من دولارين ونصف يوميا. ويمتلك احد البنوك العملاقة في الغرب ما يساوي إجمالي دخل 129 دولة نامية لعام كامل .
ويبلغ إنفاق العالم على السلاح والتسلح 2 تريليون دولار ، أي 2000 مليار دولار في حين تكفي 12 مليار دولار لتوفير مياه صحية و نظيفة لكل العالم.
وتنفق الولايات المتحدة وحدها على التسلح 5% من دخلها القومي أو 800 مليار دولار في حين تنفق على المساعدات التنموية 0,17% من ذلك الدخل، وتحظى إسرائيل وحدها بمساعدات من الولايات المتحدة تفوق مرة ونصف قيمة المساعدات الأمريكية المخصصة للعالم أجمع سنويا . وتجمع فوق ذلك أربعة أضعاف ذلك المبلغ من خلال جمعيات ومؤسسات ومناصرين لها في الولايات المتحدة .
غير أن التناقض الصارخ والذي يعصف بالعالم اليوم يتعلق بما يسمونه مشكلة " الهجرة والمهاجرين".
وفي حين يبرز الإعلام الصراعات والحروب الدائرة، والتي تمول من الإنفاق الواسع على السلاح، كسبب مباشر لمشكلة اللاجئين فانه يتجاهل حقيقة أن منظومة الاقتصاد الرأسمالي والعالمي تحمل في بنيانها تناقضا صارخا، فهي تفتح الباب على مصراعيه لحرية التجارة العالمية، ولحرية تنقل رؤوس الأموال، ولحرية الاستثمار ، ولحرية تصدير البضائع ، بل وتكسر بالقوة أي حدود مغلقة في وجهها ، في حين تفرض قيودا صارمة ومنعا شرسا لحرية تنقل القوة العاملة . وهدفها في ذلك إبقاء معظم العمال والقوى العاملة المنتجة في حدود بلدانها الفقيرة ، حتى تبقى هذه القوة العاملة رخيصة رغم أنها تنتج معظم فائض القيمة الربح المتحقق من عملية الإنتاج العالمي.وتصد الأبواب في وجهها لحرمانها من الرواتب العالية في البلدان الغربية ومن مزايا الضمان الاجتماعي والصحي الذي تتمتع به شعوبها.
أي التقسيم الطبقي الذي تحدث عنه علماء الاجتماع انتقل من المستوى الوطني ( في كل بلد) إلى مستوى عالمي عابر للحدود الوطنية.
وينفتح الباب بحذر وعناية ، لبعض المهاجرين، عندما تشعر بعض الدول بنقص شديد في القوة العاملة الشابة لديها ، وبتفاقم أعباء الضمان الاجتماعي لسكان يعانون من ارتفاع نسبة الشيخوخة.
أما أصحاب الامتيازات من أمثال دونالد ترامب والأحزاب الفاشية الجديدة في البلدان الغنية فلا يرون في المهاجرين إلا دخلاء يريدوا مشاركتهم في ما حققوه من ثروات وضمان اجتماعي و صحي ، وينسون أن هؤلاء المهاجرين والشعوب التي جاءوا منها هم مصدر كثير من هذه الثروات.
ومثل كل تناقض تاريخي كبير، فإن التناقض بين حرية نقل رأس المال والبضائع وبين منع حرية تنقل القوى العاملة، لا يمكن أن يستمر دون حل. فالدول التي كانت فقيرة كالصين تتحول تدريجيا إلى دول غنية وتتصاعد أجور العاملين فيها، وإذ تنتقل الاستثمارات إلى فيتنام وكمبوديا ومؤخرا كوبا، فان الاقتصاد العالمي سيواجه تدريجيا انحسارا متعاظما في عدد المواقع التي يستطيع الاستثمار فيها، في حين تتصاعد درجة تمركز و احتكار الثروة لدى الشركات الكبرى (Corporatroins ) محدودة العدد.
وتمثل الحروب وسيلة لإفقار الدول والانحدار بشعوبها إلى عصور بدائية ، لكن ذلك، مع إغلاق الأبواب في وجه أبناء شعوبها الهاربة من الجحيم، هو الذي يقود إلى العنف ويفتح الطريق لتغذية الإرهاب وفكره.
العنصريون يبحثون عن ذرائع لتبرير هذا التناقض بوصم شعوب وأديان بكاملها بصفة الإرهاب ، كما تفعل حكومة إسرائيل ووزراؤها غير أن جذر مشاكل عصرنا واضح وجلي وكامن في منظومة إنعدام العدالة.
بقلم د. مصطفى البرغوثي
الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية