إستقلال القضاء مبدأ أساسي وركيزة حضارية , لبناء مجتمع مستقر يحفظ الحقوق ويصون الإنسان , ويسعى إلى إدارة مثلى للحاضر من أجل تأمين مستقبل واعد للآجيال , الفصل بين السلطات الثلاثة في الدولة قاعدة دستورية , لا يمكن تجاوزها تحت أي ظرف أو مبرر , بل يعتبر المساس بتلك القاعدة بمثابة نسف للدستور وإبطال لشرعية الدولة , وقد يؤدى بالمجتمع إلى الفوضى والقمع وترسيخ الديكتاتورية , عبر تركيز كل السلطات في الدولة أو السلطة طرف شخص أو جهة معينة .
ينص القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، في المادة الثانية على أن " الشعب مصدر السلطات ويمارسها عن طريق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على أساس مبدأ الفصل بين السلطات على الوجه المبين في هذا القانون الأساسي , وهو بذلك يوفر حماية للنظام السياسي الديمقراطي , وينظم العلاقة بين السلطات الثلاثة , التي تقود المجتمع وتحميه بالأدوات القانونية والدستورية , التي تمنع التجاوز والجنوح نحو سلطة القمع أو حكم الفرد التي تعتبر من البلاء الذي أصاب كثير من المجتمعات , فمنعها من التطور والتقدم في الركب الحضاري .
وقد تكون النصوص القانونية في حالتنا الفلسطينية على مستوى راقي , من ناحية التأكيد على مبدأ الفصل بين السلطة , وأن لكل سلطة من السلطات الثلاثة , صلاحيات ودور ونظام يحكمها دون أي تعدي أو تجاوز , فالسلطة التنفيذية لا يجوز لها أن تتدخل في أعمال السلطة القضائية , حيث ينص القانون الأساسي الفلسطيني على أن السلطة القضائية مستقلة، وأن القضاة مستقلون, وهذا ما جاء في المادة 89 , والتي تنص على أن القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة.
ما أوردنا هو للتأكيد على الرسوخ القانوني في الأنظمة الحاكم بالسلطة الفلسطينية , والتي تنص على إستقلالية القضاء الفلسطيني , الا أن طغيان السلطة التنفيذية وبعض المتنفذين, قد ضرب بعرض الحائط , تلك النصوص الناظمة للعمل المؤسساتي , وأفرغ النصوص القانونية الدستورية من مضمونها , وأبطل مفعولها لصالح مراكز القوى الشخصية والحزبية في السلطة , وهو سلوك مشين وعبث مرفوض قد يؤدي إلى مآلات لا تخمد عقباها , ولن تفيد ولن تخدم إستمرار أو إستقرار الكيان السياسي الفلسطيني , ويضفي على المشهد صورة قاتمة , تعبر على واقع القمع وسلطة الحزب الواحد والقائد الملهم , وكما قد يكون لذلك الأثر الكبير في عرقلة المصالحة الوطنية وجهود إنهاء الإنقسام , وقد شاهدنا دور القضاء المسيس الذي واكب التحضيرات للإنتخابات المحلية , وكيف تم إستخدامه لخدمة أجندة حزبية بعيداً على المهنية والإستقلالية.
ما حدث مع رئيس مجلس القضاء الأعلى الفلسطيني، سامي صرصور والذي أعلن عن إستقالته قبل أيام , يكشف لنا حجم التدخل المريب والخطير , لأذرع السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية , والتدخل المباشر في إختيار القضاة , وفقاً لمقاسات مطلوبة لذا دوائر القرار في السلطة التنفيذية , والأخطر من ذلك إجبار القضاة المعينين في المحاكم الفلسطينية , على توقيع ورقة إستقالة من المنصب القضائي بلا تاريخ , حتى يتم إستخدامها لاحقا ضد القاضي , الذي أصبح بتوقيعه ورقة الإستقالة , قبل إستلامه ورقة التعيين في السلك القضائي , بمثابة رهينة في يد السلطة التنفيذية أو الشخصيات المتنفذة , وبالتالي سيكون رهينة للإشارات الصادرة من طرفهم , وهم بذلك قد ساهموا في شط ضمير القاضي , الذي ستكون قراراته بلا شك تتوافق مع توجهات أو رؤية أصحاب القرار في توظيفه , حيث أنهم أيضا يملكون ورقة إستقالته , للإستخدام في الوقت المناسب , في حالة أصاب القاضي صحوة ضمير , أو أراد أن يحكم بالعدل بما يخالف رغبات أصحاب السلطة والنفوذ .
ما كشفه القاضي صرصور يهدم أركان السلطة الفلسطينية المتداعية للسقوط أصلاً , في ظل إنعدام الرؤية السياسية , وغياب الإصلاح الداخلي , وتوحش الإجهزة الأمنية ضد المواطن الفلسطيني , لذلك تحرص السلطة على تناغم بين أدواتها الثلاثة - التي فقدت الشرعية اللازمة قانونياً - , هذا التناغم يخدم مصالح أصحاب النفوذ والسيطرة في السلطة الفلسطينية, ويضمن إستمرار السلطة وأجهزتها بأداء دورها الأمني بعيداً عن الرقابة القضائية اللازمة , فترى الإنتهاكات الواضحة لحقوق الإنسان والإعتقال التعسفي للنشطاء والسياسيين والمقاومين وإحتجاز المواطنين بلا تهمة واضحة لأسابيع وأشهر على ذمة المحافظ او الجهاز الأمني .
ألا يستدعي إعتراف القاضي سامي صرصور , بإجباره على التوقيع على ورقة إستقالته من منصبه قبل إجراءات حلف اليمين القانوني أمام الرئيس عباس , لتكليفه بمنصب رئيس مجلس القضاء الأعلى الفلسطيني , ثورة قضائية توقف تجبر وتسلط السلطة التنفيذية وأدوات النفوذ على الجسم القضائي , من أجل كرامة القضاة وضمان نزاهة التقاضي في المحاكم الفلسطينية , وإلا فأن قانون الغاب سيكون هو الحاكم , ولو كانت الأحكام تخرج في إطار شكلي بثوب القضاة من دور القضاء , فلماذا لا ينتفض القضاة ؟ لرفع شبهة الإنصياع والخنوع في قراراتهم وأحكامهم للسلطة التنفيذية -الحكومة وأجهزتها الأمنية-, والا فأن الشبهة ستستمر بحقهم , وسوف تحاصرهم نظرات الناس , بأنهم تبع في أحكامهم للجهاز الأمني أو القائد السياسي.
أيها القضاة لقد أعطاكم النظام الأساسي الفلسطيني حق الإستقلالية , وهي الحق الدستوري الذي يجب أن تقاتلوا من أجل ترسيخه والدفاع عنه , لتساهموا في بناء مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني, على أسس سليمة بعيداً عن الأهواء والنزوات , التي تحرك البعض بدوافع شخصية أو حزبية , أما أن تكونوا على قدر المسؤولية في حماية القضاء الفلسطيني , أو تكونوا قد ساهمتم بأنفسكم , بدفن القضاء والتكبير عليه بأربع , ولن يغفر لكم شعبكم ولن يرحمكم التاريخ.
بقلم : جبريل عوده *
كاتب وباحث فلسطيني
26-10-2016